لم تتخلص السياسة في مصر حتي الآن من استعمال الفزاعات, قبل ثورة يناير كان النظام السابق يصور الإسلاميين, وبالذات الإخوان المسلمون, علي أنهم فزاعة تهدد الأمن وتعادي الوطن, ومع أن النظام سقط إلا أن خطاب الفزاعات لم يسقط, بل كشفت الثورة عن ثلاثة أمور يستحق كل منها تأملا وتدقيقا. أولها: أن فزاعة الأمس تشغل موقع الصدارة اليوم, ما يؤكد أن الناس لا ينطلي عليها التفزيع لو استعملته حكومة ليس لديهم ثقة فيها, والأمر الثاني: أن بعض الليبراليين والعلمانيين واليساريين ما زالوا يرون الإخوان وقوي الإسلام السياسي علي أنهم مفزعون, علي رغم مشاركتهم معا في هدم النظام السابق, ويدل ذلك علي أن خطاب الفزاعات الذي استعمله النظام السابق, وإن كان فيه تضخيم ومبالغة, فإنه يحمل عند البعض إلي اليوم جزءا من الحقيقة, والأمر الثالث: أن من استعملوا كفزاعة بالأمس لجأوا بعد التمكين إلي البحث عن فزاعة جديدة, وجدوها فيما يسمي بالقوي المدنية, وبالذات الليبراليون. وتشير الأمور الثلاثة معا إلي أن مصر مازالت تقف بين فزاعتين: فزاعة الإسلاميين التي استعملها النظام السابق ومازال لها امتداد إلي اليوم, وفزاعة المدنيين التي يستعملها بعض الإسلاميين, والفزاعتان لا تقل الواحدة منهما ظلما عن الأخري. والفزاعة إعلان تنبيه يطلق للإشارة إلي الآخر المختلف أيديولوجيا أو سياسيا, هي صيحة تحذير تحدد من هو العدو, وفي السياسة كثيرا ما يجري البحث عن فزاعات إما للهيمنة علي الآخرين, أو للاحتفاظ بتماسك الجماعة أمام خطر يجري أحيانا اختلاقه وتضخيمه,والفزاعة بهذا المعني وسيلة لاكتساب الشعبية وسلاح للانقضاض علي الخصوم ووسيلة لصرف انتباه الناس عن القضايا الجوهرية إلي أمور فرعية أقل أهمية. ويعتمد من يستعمل الفزاعات علي تصوير الآخر بطريقة سلبية تتسم بالتنميط والاختزال والتحيز والتعميم, ويتسبب ذلك في ايجاد مشاعر خوف وكراهية تجاهه قد تصل أحيانا إلي الاستعداد لاستعمال العنف, واستخدام الفزاعات ليس بجديد وليس مقصورا علي مصر, والتاريخ مليء بالأمثلة, فقد استعملت الولاياتالمتحدة الفزاعة الشيوعية, واستعمل الاتحاد السوفيتي الفزاعة الرأسمالية كوسيلة للحفاظ علي تماسك المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي خلال فترة الحرب الباردة, كما استعملت واشنطن الفزاعة الإسلامية وفزاعة الإرهاب منذ أحداث11 سبتمبر.2001 وفي مصر وبرغم الأمل الذي بثته الثورة في التغيير, فإن استعمال الفزاعات ما زال مستمرا تعززه عوامل عديدة, من بينها ميراث الاستبداد الذي عود القوي السياسية علي تشويه الآخر بدلا من تحسين الأداء الذاتي, ومنها أيضا شبكة المصالح المعقدة التي ما زالت تدفع بأصحاب المصالح إلي استعمال التفزيع وسيلة لحماية مصالحهم حتي لو كانت الحقيقة وسمعة الآخرين هي الثمن, ومنها كذلك الثقافة السياسية المصرية التي يميل أهلها إلي الشك في الآخر وبناء أحكامهم علي الانطباعات قبل المعلومات, وتفضي هذه العوامل إلي رؤية الآخر كخصم وليس شريكا, وتهديد وليس مجرد طرف, وفزاعة وليس منافسا شريفا. ولا يخفي أن ثمة عملية تجري لإعادة إنتاج خطاب الفزاعات يجب التحذير من خطورتها والعمل علي وقفها من أجل مصلحة الوطن, ومما يزيد من خطورتها أن الأرضية الهشة التي تقف عليها القوي السياسية تدفع للسقوط بسرعة في أسر خطاب التفزيع. علي الجانب الإسلامي, وصل الأمر بالبعض إلي ازدراء باقي التيارات السياسية وتفزيع المجتمع منها بدعوي أن أصحابها كفرة و جرثومة شاذة يريدون إبعاد المجتمع عن شرع الله, وهو تصوير ظالم يجسد تلك التيارات علي أنها الشر بعينه الذي يجب إعلان الحرب عليه وتدميره. في المقابل, يواصل البعض من التيارات المدنية تصوير الإسلاميين علي أنهم فاشيون جدد وبدائيون متخلفون يسعون إلي الهيمنة والانفراد بالسلطة والسيطرة علي جميع مفاصل الدولة, وإعادة الخلافة واحتكار الدين وفرض رؤيتهم علي الآخرين. ولا شك في أن تبادل التفزيع يشكل عقبة كبري تحول دون بناء نظام سياسي ديمقراطي متماسك, فالفزاعات لا تصلح لبناء الديمقراطية ولا في اكتساب الشرعية, فليس بتخويف الناس من الآخرين يكتسب القبول وإنما يكتسب بالقدرة علي خدمتهم وتأمينهم ومد جسور الثقة بينهم, كما أن خطاب الفزاعات يصرف المصريين عن مواجهة الأزمات الحقيقية إلي الاهتمام بقضايا هامشية, ومع هذا تقف مصر, وللأسف الشديد, من بعد الثورة بين فزاعتين: فزاعة الإسلاميين ويرفعها خصومهم من التيارات المدنية, وفزاعة الليبراليين ويستعملها خصومهم من الإسلاميين. والمشكلة أن استمرار الجانبين في تبادل التفزيع يرتب آثارا سلبية تدق ناقوس الخطر, فمع تبادل التفزيع يشوه كل طرف إدراكه عن الآخر فيركز علي التصرفات السلبية, مستدعيا صورة العدو بدلا من رصد التصرفات الإيجابية مستحضرا صورة الشريك, كما يدفع خطاب التفزيع إلي تعبئة مشاعر الخوف والكراهية علي الجانبين, ومن ثم تراجع الثقة المتبادلة وزيادة اعتقاد كل طرف بأن الآخر لديه أهداف غير معلنة وخطط سرية مما يفتح الباب أمام التخوين وتبادل الاتهامات بالعمالة للخارج. وإذا كانت الفزاعات قديمة قدم التاريخ وجري استعمالها في مصر منذ أجل بعيد, فإن ذلك ليس بمبرر للاستمرار في استعمالها, فالظرف الحالي يدعو إلي التخلص منها بسرعة, لأنها ليست الطريق السليم لبناء حيز عام جديد أفضل وأعدل. فالفزاعات أدوات سياسية خطيرة وبغيضة ووسائل للتفرقة يجب علي كل فصيل أن يكف عن استخدامها في إدارة علاقته بالآخرين هي وكل أدوات الترويع. وليس مطلوبا بالطبع تبادل تجميل الصورة بين القوي السياسية, إنما مطلوب العمل علي بناء وعي مختلف بالآخر وصور ذهنية أكثر موضوعية عنه تسمح برؤية الجوانب المضيئة في الغير, ولن يتم ذلك بدون إجراءات لبناء الثقة, وبالإمكان علي المدي القصير مثلا أن توقف اللجنة التأسيسية عملها إلي حين البت قضائيا في صحة انعقادها, فذلك وإن كان سيعطل كتابة الدستور لأيام, فإنه سيوقف خطابات التفزيع التي يتبادلها أعضاء في الجمعية فيما بينهم, ولو حدث وحلت الجمعية سيكون أفضل لو قرر الرئيس تشكيل اللجنة الثالثة بالاقتراع الشعبي المباشر في أجواء يوفر لها جميع ضمانات الحيدة والنزاهة. أما علي المدي البعيد, فمطلوب أن يتخذ كل طرف خطوات إيجابية وتصالحية تجاه الآخر بدلا من الاستمرار في شيطنته وتفزيع الناس منه, وسيساعد ذلك بالتدريج في تحسين الصور المتبادلة واحتواء لغة التخوين التي لا تنفصل أبدا عن خطاب التفزيع,ولا يقل أهمية عن ذلك ترويج قيم مختلفة تنبذ العنف وتعلي التسامح وتنأي بالفرد عن الاعتقاد في ملكيته للحقيقة المطلقة, قيم تندد باستعمال الفزاعات وتعترف بالآخر ضمن إطار تعددي يتسع للجميع. لقد تسبب اعتماد النظام السابق علي فزاعة الإسلاميين في اتساع الهوة بين الدولة والمجتمع, واليوم وفي ظل تبادل التفزيع بين من كانوا شركاء في الثورة نشأت حالة استقطاب حادة يمكن أن تولد احتقانات أكبر ليست باليقين في مصلحة مصر, فالقيادة السياسية أمامها ملفات مثخنة تحتاج إلي تعاون كل القوي السياسية, وليس إلي تبادل التفزيع فيما بينها, فمصر لم تقم بثورة لتنهي فزاعة من أجل أن تطلق العنان لسلسلة من الفزاعات, مصر لا تحتاج إلي خطاب تفزيع يفرق وإنما إلي خطاب تجميع يوفق, حتي تعود للوطن حيويته ومكانته.