منذ فطنت البشرية لمفاهيم التناقض والتقابل الحياتية المستمدة من البيئة وهي تدرك أن ثمة إكسير لاستمرارية الحياة لا تستقيم إلا بدونه وهو التقابل المنطقي للمتناقضات. فالليل مقابل النهار والشمس يقابلها القمر والرجل أمام المرأة, وكذا الجفاف في مقابل الرطوبة والخصب مقابل العقم والنور تتبعه ظلمة وهكذا دواليك.. أما علي المستوي القيمي فالحق مقابل الظلم والخير والشر صنوان والنظام قد يخرج من رحم الفوضي... إلخ إلخ. ومن ثم لم يكن مستغربا أن تكون كلمتا( نعم) و(لا) ضمن هذه المنظومة الحياتية منذ قديم الأزل وقبل أن تأخذ شكلا تنظيريا يرتبط بالمفاهيم المستحدثة حول قبول الآخر وقضية التأييد والمعارضة علي المستويات الفكرية والسياسية. بيد أن( نعم) و( لا) قد اكتسبتا حضورا خاصا منذ صارتا صنوا للآليات السياسية في بعض دول العالم الثالث التي مثل فيها اسلوب الاستفتاء النظام الأمثل في طرح خيار واحد كبديل عن النظام الانتخابي الذي ينزع للتعددية. وليس بخاف علينا أن هذا الأسلوب الأحادي يرتبط بالشرعية الثورية التي لا تقيم وزنا لمعارضة بل وتراها وأربابها أعدي أعداءها. ولعل هذا مايفسر تلك النسبة الفلكية في الاستفتاءات التي شهدتها مصر ردحا من الزمن منذ العهد الناصري, وسارت علي منوالها العديد من الدول العربية بل وتجاوزتها تمكنا وتفوقا بل وتمسكا رغم نزوع الرائدة في العقد الأخير للطرح الديمقراطي التعددي. كما لايزال ذلك الطرح الذي تبناه الرئيس الباكستاني السابق ضياء الحق نموذجا غير مسبوق للاستثمار الانتهازي لكلمة( نعم), عندما جمع بين إعادة انتخابه وتطبيق الشريعة الاسلامية في خانة واحدة بحيث يأثم الرافض لحكمه لكونه رافضا للشريعة بالتبعية. ومما يستلفت النظر التفاوت البين في حجم( نعم) و( لا) في الكتب السماوية, إذ في حين تقع الأولي في الكتاب المقدس في حوالي سبعين آية تأتي( لا) فيما يربو عن السبعة آلاف مرة. وذات الأمر عن نعم في القرآن الكريم التي بزتها حضورا كلمة( بلي) المرادفة, في حين كان حضور( لا) بنوعيها الناهي والنافي طاغيا. ويبدو أن مفردات الرفض السياسي العربي ممثلا في( لا) قد جاء متفقا مع أبجديات الطرح السياسي علي تنوعها, ومن ثم جاءت اللاءات العربية الشهيرة لتضيف للقاموس السياسي مصطلحا جديدا لا يكتفي بجعل الرفض مزدوجا بل ومركبا أيضا, اتساقا مع العنترية العربية شديدة المغالاة في تعظيم المواقف. ولا يفوتنا في غمرة الحديث عن تعدد التعبير بالرفض والقبول ذلك التناوب المصري خفيف الظل الذي ربط بين( نعمين) في الأغنية الشعبية الشهيرة وبين خطاب التنصيب للرئيس السادات الذي وجه فيه الشكر للجميع سواء قالوا لا أو نعم أو حتي( نعمين). ويري المختصون في العلوم السلوكية أن تبني( لا) بقدر مايمثل سباحة ضد التيار أو تعبيرا عن موقف دفاعي قد يعكس استقلالا في الشخصية كما يرتبط بها من ثم بعض التوجهات الخلاقة لدي أصحابها, إلا أن( لا) في ذاتها قد لا تصمد أمام أمرين لا مفر منهما هما الموت تخصيصا والقدر علي وجه العموم. في حين أن( نعم) تمثل أحيانا حالة من حالات الرضا أو القبول الإستاتيكي لأوضاع مجتمعية علي جميع الأصعدة. وبين الرفض المنطقي بلا والقبول التصديقي بنعم تأتي الرغبة المأمولة التي تستلزم قدرات خلاقة متجاوزة لكليهما تقف في منطقة وسطا, وجعلت إدوارد دي بونو أستاذ السلوكيات يطرح تعبيرا يمكن استخدامه في هذا الصدد وهو كلمةPO. إذ يراه يمثل أداة مستحدثة تخرج بالتفكير في تناول القضايا عن الصرامة الملموسة في( نعم) و( لا) لآفاق أرحب تمكن الانسانية من الإبداع في عالم الأفكار الواسع, الذي يبدأ برفض القائم مستخدما( لا) ويظل في منطقة وسطا سعيا نحو التجديد الذي يمثل( نعم) وإن كان ليس بالضرورة تحققه. ومن ثم تصبح الصيغة الجديدة المقترحة فيما نري بمثابة منطقة محايدة لالتقاط الأنفاس تخرج بالمبدع من الوقوف تحت ضغط الحسم. ورغم غرابة الطرح فإنه يذكرنا مع الفارق بموقف الأحنف بن قيس يوم جمع معاوية علية القوم في المسجد الجامع بدمشق طلبا للبيعة لابنه يزيد, وعندما جاء الدور علي الأحنف ليدلي برأيه إذا به يردد الPO علي الطريقة العربية بالقول أخشي أن أقولها فأغضبك وأخشي أن أصمت فأغضب الله. إن مايعنينا في هذا المقام ليس توجيه الناس فيما نحن مقبلين عليه من خيارات مصيرية في قابل الأيام ليقولوا( نعم) أو( لا) لذاتها, إذ الأهم من ذلك أن يكون موقفهم ليس( أحنفيا) بل مصريا يستشرف مستقبل هذه الأمة بصدق وأمانة وإخلاص. حتي لا تفترق بنا السبل فنستخدم( لا) في موضع نعم أو نأسف علي إهدار( نعم) في عنترية لائية لن تبقي ولن تذر.