تبقي عوالم التصوف وطقسها الأثيري الغامض في المجموعة القصصية: ديوان الملحقات. للروائي عبد الحكيم قاسم. وتنثر علي القصص سحائب رمادية تملأ سماوات إبداع عبد الحكيم قاسم وتجعل لكتاباته نكهة خاصة، كما تهبها ثراء فكرياً وروحياً. ومن قصتيه "السُري بالليل"، و"واحد من أهل الله" أستطيع أن أوجز ملامح توجه صوفي في إبداعات عبد الحكيم قاسم، يعضدها علي نحوعميق عمله المبكر "أيام الإنسان السبعة" الصادر له عام 1969م، وتتجلي أول محاور هذا التوجه في رؤيته للاتصال الوثيق الكامن بين الخلائق والموجودات، متأثراً بالتصوف الشعبي المصري ووحدة الوجود التي تتوجه نحوالأعلي، في جميع الجهات ثمة حياة تتوسل إلي الله، طقسها الذكر والتهدج. يقول في نصه "واحد من أهل الله" المرأة تميل بالدف مع الآه، وتعتدل مع الآه الأخري، وتغمض عينيها وتضحك كالنهار، وترجع كتفيها اثنين اثنين، وترفع رأسها إلي الخلف مع الآه الثالثة الأخري، والدق تباعاً بيدها السوداء الهائلة علي قلب الدف. هل أدري أيصل تيارها الرجل، أم يصلها الرجل بتياره؟، حتي أنه في نص "السري بالليل" الذي تنبأ فيه بموته، يصف مشهد خروجه علي محفته يقول: "ميزت خطوالذاكرين وترتيلهم، قلت لأخي: ما الذي يقرأون في جنازتي؟ قال دلائل الخيرات وبردة البوصيري.. قلت له: كنت أفضل شيئاً أكثر فرحاً". وينزوي في تلك الرؤية للوجود القبح أوالعنف أوالشر، وتفارق المخلوقات فيها طبيعتها، ويري المريد أوالشيخ فيها أجمل ما في الأشياء، حتي القبح يتحول إلي جمال، يقول في نصه "السري بالليل": " فرحان بالبومة. وجهها ابن اخت وجه القمر، مرسوم العينين، والابتسامة مخيفة تحت قوس الأنف، والخفافيش هي فيران رقيقة هشة العظام تصر في أذني إذا طارت محلقة، والفراش والجراد لا يفتك الليلة بالزرع، والبومة تعفي الجرذان من صيدها". وتتجسد الموجودات الطبيعية، تتأنسن يقول عن القمر: "نظرت للقمر وتأملته وأحببته مزجج الحواجب مكحول العينين، مرسوم الشفين، مولع به، مشدود إليه." ص76. كما تندمج الحواس وتصل بالمريد لحالة من الوجد والشفافية، يقول تربت عيناي علي الأشياء دون تأريق البهاء البدراني، ومن اجتماع حسي البصر والسمع ومن إرهاف جملة العصب تتولد البصيرة، تتبع خيوط الضوء الحريرية الفضية حيث تنسج قباباً وقباباً وتتدلي الشراشف وبدع الزينة،". وحين يصل المريد المتصوف في مجاهداته ومراتبه إلي درجاتها القصوي، تنصاع له الموجودات وتتخلله ومضات الألوهية وطاقاتها، يقول الشيخ في السري بالليل في نجواه لأخيه: "لكنني سالم في سراي الليلي، فكلهم كلابي هذا المساء."، الذئاب والثعالب والتيفان والقطاط البرية والجرذان والحرباءات". في حالة الوصل والاتصال بالوجود والخالق يصف الشيخ المخلوقات يقول: "والثعابين هذا المساء طيبة تتمدد في القمر، والنور ينزلق علي ملوسة جلدها، تستصفي عيونها جوهر الضوء في ماسات تخلع قلبي المشبع بحكايات كنوز سندباد". في حالات التصوف ومجاهداته وتأملاته تلك التي يصفها عبد الحكيم قاسم علي لسان شيخ الطريقة الذي يناجي ذاته، أوأخيه، أوحامل العهد عنه، يتوسل بكل الممارسات والطقوس أوالوسائل التي قد تصل بالإنسان إلي درجة عرفانية واتصالية متعالية، فيتحدث عن البنات ويذكر أن للبنت سحراً فيقول: "وهي تأخذك إلي مجاليها _ تحكي لي _ إذا انبهرت أخذتك قسراً إلي ما يبهرك أكثر، تهصرك إليها. تتحسس وجهك والعضل والأعضاء، مرغ في حليب فمها فرع دافئ. تصرخ بك أن الرجال سكر" وتشرب من مشاريبك!". تستدعي رؤية عبد الحكيم قاسم للتصوف، وحديثه عن الوسائل والطقوس المتبعة للوصول إلي الترقي في المراتب حتي حالة الوصل، رؤية أبي حيان التوحيدي للتصوف، وطرق المتصوفة لنيل تلك الحظوة من الترقي بالأحاسيس، تستدعي طقوساً ومراتب التصوف التي يذكرها القصاص في ذاكرتي وصف التوحيدي لتجربته مع التصوف والمتصوفة، وبحثه عن جوهر ومظاهر هذه التجربة العرفانية. وتخالط الفلسفة التجربة الصوفية عند "عبد الحكيم قاسم" وتتشابه مع تجربة التوحيدي أيضاً في القرن الرابع الهجري، وتصبح المعاني الباطنية والتأويل طرقاً ومسارياً للغوص في المعاني والتعالي علي الظاهري منها، بما يصنع ملجأ للهروب من فهم العوام، يقول الشيخ: "وإذا تفلسفت أركَّب الكلمة علي الكلمة وأشقق بطون المعاني لإخراج الحكمة من المعني..!" قال: "وأنا أسألك متي الثمرة تسقط من علياء الفرع تندثر في الرغام"؟ قلت" "أخ"، قال: "وهي حافلة بالبهاء والزينة.."؟ قلت: "إنها تضربها الآفة"؟ قال" "من رونقها لا أري ما يعيبها"؟ "قلت: "إنك تري الآفة في جسمي..؟" قال لي: "نعم.. نعم.." قلت: "إنها لا تضير بي"؟ قال: أنت حافل بالبهاء والزينة" قلت له: "آه.. آه..!!". في النصوص التي تقترب من الحكي عن تجربة التصوف، يختار المبدع مفردات تشي بطاقة خفية تسري بالألفاظ، ومن ثم بالجملة، وتصبح الألفاظ المنثورة بالجمل والفقرات تباعاً، كأنها بؤر متوترة مضيئة خفية، تشع طاقة سرية، شأنها شأن التجربة ذاتها، تلك التجربة التي لا يستطيع العقل المنطقي المجرد من الحدس الروحاني أن يحيط بها علي نحوصحيح، يقول في نصه "واحد من أهل الله" وهويصف زيارة رجل الذكر لوالده: "وحبات مسبحته تتساقط من بين أصابعه فتصك الواحدة الحبة الأخري صكة كهربائية" ثم تتوالي تلك المفردات في القصة لتشع في النص طاقة خاصة، وطقس روحاني متعال كأن يقول: "يدرج نحونا، "طرت ليمه بأشواقي"، "سجاجيد لهفتي وطيبي به". في نصه "السُري بالليل" يصنع عبد الحكيم قاسم موازاة مبدعة ومعبرة في مجاز كلي ومُركَّب بين ماكينة الطحين والنتار الأبيض الذي يلون الأشياء والوجوه في محيطها، وبين جلسات الترديد والذكر وما تصنعه وتبعثه من الدخول في حالة من التعالي علي الجسد والأرضية والمادية، الارتفاع مراتباً تلو مراتباً للوصول إلي حالة من الاتحاد، يقول عن فلسفة الطحين" له زئير يرج الغرفة، يرجني حتي القلب" تنسحق الجتة في ضجة عديمة المثال، ويطير بعضها يركد علي أيدينا والوجوه.."، ثم يقول: "وصفرت ماكينة الطحين علي حافة المرئيات، بذلك كبست علي الظلمة، وانطلق عواء الضبعة. قلت في نفسي لنفسي: "هكذا طهرنا الأرض من الخرافة، وبقيت هذه تعمر صحائفنا والكتب". وكما يتشكل المجاز الجزئي والكلي في أعمق صوره ليعبر عن تلك التجربة الصوفية الخاصة عند عبد الحكيم قاسم، يأتي المشهد ليصنع نوعاً من الغموض المقصود، نوعاً من الإغراب والإبهار في ذات الوقت في قصته "واحد من أهل الله" يشكل مشهداً ربما رآه في الواقع، لكن طريقة وصفه له والفلسفة الروحانية الضافية فيه هي الإضافة الحقيقية للمبدع عبد الحكيم قاسم، يصور الاتصال الخفي بين امرأة سوداء تضرب علي الدف بيد قوية ورجل مكبل بالحديد، يدخلا حلبة التهدج والرقص، ليصبحا كياناً واحداً موصولاً، ليقول في نهاية المشهد: "والعيال الذاكرون يجوبونها بالدق، وخشيش الصدور، إذ اتخذ الرجل من حديده جنزيراً طويلاً، ثم يديره علي رؤوس الناس دوراناً حاكماً باهراً، والذكر دائب مسقوف بالحديد، لحظات أبدية"، وأتصور أن الحديد هنا رمزا لكل ما يكبل الروح الإنسانية من قيود تربطها بالأرض والجسد والشئون الحياتية، فيأتي الذكر والمجاهدات الروحانية لتشف بتلك الروح وترتفع بها لتحقق الاتصال، المشهد الراقص هنا يحكي قصة مجاهدات المريد مع شئون الأرضية، ويعد الدوران السريع بموسيقي الدف مؤشراً لرحلة طويلة وممتدة ومجهدة عاناها المريد، فتنفك بعدها القيود الحديدية. وتبقي اللغة وتكويناتها المتنوعة علامة مميزة وفاصلة في سرد عبد الحكيم قاسم، لغة تدعوإلي التوقف النقدي طويلاً خاصة في آخر أعماله "ديوان الملحقات"، اللغة حادة، تدعوك للتوقف مراراً، لغة لا تتسم بالإنسيابية ولا السلاسة إلا بعد القراءة الثانية أوالثالثة، وهواختيار لم يبرز بتلك الدرجة في نصه المبكر "أيام الإنسان السبعة" فقد كانت لغته أكثر سلاسة. تظهر المفردات في ديوان الملحقات فصيحة تميل إلي الغربة لخروجها النادر من المعاجم، تفصح عن عشق المبدع للغة العربية في صورتها التراثية غير المتداولة في بعض الجمل والفقرات، لكن استخداماته لبعض المفردات المعجمية المهجورة لا يصنع غموضاً في المعني، يستخدمها بالقدر الذي يظل النص فيها مفهوماً، ولا تحدث قطيعة أوجفوة بين النص ومتلقيه، ويبقي السياق عاملاً مؤثراً في فض ندرتها في الاستخدام، مفردات من قبيل بلاقع، أشفينا، تأريق، وغيرها كثيراً. ينضاف إلي ذلك اختياراته للصيغ الصرفية: صيغ المبالغة والاشتقاقات أوغيرها من التكوينات الصرفية من قبيل قوله صخابون، يتخلع، أهرمها السن، زمتت، يبرجس، مع ملاحظة طبيعية النكهة الريفية التي تلون بعض تلك المفردات. فاللغة عنده لغة مزدحمة، حبلي بالأمطار الغزيرة، فهي إضافة إلي رصانتها كمفردات وهندسة الجملة ذاتها، تزخر بالتشكيلات المجازية المتجددة غير المعهودة، لمَّ حملت به نصوصه أفك القضايا الإنسانية في صورتها الأعمق، وللبعد الصوفي الذي تحويه أعماله. فللقاص قاسم طريقة خاصة لصياغة جمله وفقراته، وهي طريقة جبلية تدعوإلي التوقف والتأمل لأبعادها النفسية والإبداعية، نلمح حدة في استخدامه للضمائر، وإصرار متعمد علي ضرورة ذكرها، وثبتها في أول الجمل، كأن يقول في نص "ترديد ألماني": فإذا رآه الأسود تحفز، وهوحدج الأسود بنظرة يتطاير فيها الشرر": في الشواهد السابقة قد أفسر الأمر بأنه يتعلق برؤية المبدع لإبراز الاختلاف بين الجنسيات والعرقيات، وبين طبائع الشخوص برغم قرابتهم، يرصد لتحولاتهم، لذا يركز النص علي الضمائر ليبرز في ذبذبات حادة غير انسيابية هذه الاختلافات، ليشير ضمناً إلي التباين بين البشر، وأحياناً إلي جحيم الآخر. لقد تلونت جمل "عبد الحكيم قاسم" برؤيته لشخصياته ونماذجه وطبائعهم المختلفة، وأتصور أنها تضمنت حتي رؤيته لذاته وأقنعتها، وهوما جعل جمله تميل إلي الجملة الإسمية أكثر من الجمل الفعلية - التي هي الأصل في العربية - ويرجع هذا لتلك الرؤية التي رأي بها الآخرين من حوله، رؤيته للأفكار المتناقضة والمتعايشة التي تحيط بالإنسان وتجعله واقعاً في ثنائية حتمية، لم يخفف من هذه الحدة في أدبه سوي تجربته الصوفية في الإبداع والتي أشرت إليها في بعض أعماله، كما أن غلبة الإسمية قد ترجع إلي ميل إبداعه السردي إلي المناطق الشعرية وجوهرها وما يميزها من ذاتية وغنائية. اتسمت الجمل عند القصاص أيضاً بالتكثيف الشديد، فجملة واحدة تدل علي معاني مركبة، فمثلاً صراع الأم وخوفها علي ابنتها، ما يمكن أن يعبر عنه عدد من العبارات أوفقرة كاملة يقتصد في جملة واحدة، يقول في نصه مطر "أمها تنظر في أعقابها متعذبة العينين والبنت تبتسم لأمها مشجعة" لنا أن نلاحظ أن الجملة أسمية، وأنها تستهل بضمائر تدلل علي منظومة من العلاقات المضطربة والحرجة، علاقات معبرة عن نماذج وشخوص مختلفي الأهواء والمشارب والغرائز والثقافات، لذا تبقي في مواجهة دائمة، هذا في مقابل هذا، هونقيض أنا، أنت مغاير لنحن، وهكذا الحدود قطعية والتباينات واضحة، لكنها موجودة ومتعايشة، ويعبر عنها إبداعه المتوسل بالسرد والذي يتماس مع الغنائية وما بها من طبيعة شعرية.