الشعارات التي رفعتها الطلائع الشبابية في الأيام الأولي لثورة 25 يناير لتفجر بركان هذه الثورة التي حفزت ملايين المصريين للانخراط فيها وتحويل الفعل الثوري الذي فرض نفسه في ذلك اليوم إلي ثورة شعبية حقيقية لم تكن شعارات عفوية بل كانت ترجمة حقيقية لمعاناة الشعب المصري مع نظام مبارك من ناحية, وكانت من ناحية أخري. امتدادا لنضال متراكم لمعظم فصائل وتيارات المعارضة المصرية ضد هذا النظام وعلي مدي سنوات طويلة. فشعارات عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية التي مزجت بعبقرية فطرية لهذا الشعب النبيل بين حرية المواطن وكرامته وبين حرية الوطن وكرامته استطاعت أن تعبر عن خلاصة تجربة الحركة الوطنية المصرية علي امتدادها الطويل التي كانت تناضل ضد استبداد الحكم الداخلي لصالح عدد محدود من المستحوذين علي الثروة الوطنية المحتمين والمتحالفين دائما مع العدوين اللدودين للشعب: القصر الملكي وقصر المندوب السامي البريطاني, والتي كانت تناضل بالقدر ذاته ضد الاستعمار البريطاني سعيا ل الاستقلال التام.. أو الموت الزؤام. فحرية المواطن وكرامته بأن يعيش حرا كريما لم تنفصل يوما عن اليقين الشعبي بأن هذه الحرية والكرامة مرتبطة ارتباطا عضويا لا ينفصل عن حرية وكرامة الوطن. هذا الارتباط كان ومازال الدرس الأهم لتجربة النضال الوطني المصري فمن يريد أن يحقق حرية وكرامة المواطن عليه أن يناضل من أجل حرية وكرامة الوطن. ومن يريد أن يحقق حرية وكرامة الوطن عليه أن يناضل من أجل حرية وكرامة المواطن, والعكس صحيح, فالنيل من حرية وكرامة المواطن ينال كثيرا من حرية الوطن وكرامته, والنيل من حرية الوطن وكرامته ينال كثيرا من حرية المواطن وكرامته. اليقين الوطني بهذه المعاني هو الذي دفع بملايين المصريين كي تخرج وتنزل إلي الشوارع والميادين في جميع المحافظات المصرية عندما أدركت أن آلاف الشباب الذين نزلوا إلي الميادين, وعلي الأخص ميدان التحرير في القاهرة يوم25 يناير متحدين دولة الفساد والاستبداد بكل سطوتها البوليسية, قد نزلوا دفاعا عن حرية وكرامة الوطن وحرية وكرامة المواطن. والرئيس محمد مرسي وصل إلي كرسي الرئاسة بالتزام وتعهد صريح ينص علي الالتزام بأهداف الثورة, ووصل حرصه علي هذا الالتزام بتأكيده, عندما ذهب إلي ميدان التحرير ليقسم أمام الثوار اليمين الدستورية في قسم صريح بالتعهد بأن تكون أهداف الثورة في رقبته وأن يكون القصاص لشهداء ومصابي الثورة في رقبته. هذا القسم الرئاسي في ذلك المشهد المهيب بميدان التحرير تحول إلي واحد من أهم أركان شرعية الحكم الجديد. ما يعني أن حكم الرئيس محمد مرسي, وحكم من سيأتي بعده من الرؤساء, سوف يكتسب شرعيته بقدر وفائه والتزامه بتحقيق أهداف الثورة وفي مقدمتها الانتصار والانحياز والسعي الدءوب الملتزم بتحقيق حرية وكرامة الوطن وحرية وكرامة المواطن, فإلي أي مدي أثبت أداء الرئيس وحكومته جدية هذا الالتزام بهذا المعيار الجديد للشرعية خلال الأيام المائة التي مضت منذ توليه الحكم. الإجابة, بأسف شديد, تؤكد أن شرعية الحكم أضحت في خطر. فالأيام المائة التي مضت, بما تحمله من مؤشرات حول المشروع السياسي والاقتصادي للرئيس وإدارته للسياسة الخارجية المصرية تكشف, بل تؤكد, انحرافا عن الشرعية السياسية للثورة. فالرئيس محمد مرسي تعهد في وثيقة فيرمونت يوم 22 يونيو الماضي مع الجبهة الوطنية لحماية الثورة التي كان طرفا مباشرا في تأسيسها بأن يحكم وفق مشروع شراكة وطنية جامعة بأن يجعل القوي والتيارات السياسية الوطنية الأخري (الليبرالية والقومية الناصرية واليسارية) شريكة في الحكم والسلطة جنبا إلي جنب مع التيار الإسلامي السياسي بفصائله المتعددة, كما تعهد بأن تكون الدولة الجديدة مدنية ديمقراطية لا دينية ولا عسكرية, وأن يجري تعديلا في عضوية الجمعية التأسيسية للدستور هدفه تحقيق التوازن في العضوية بين جميع الفصائل الوطنية كي يأتي الدستور وطنيا مصريا خالصا يعبر عن مصر كلها ويقوم بالأساس علي بناء دولة وثورة25 يناير. لكن هذه التعهدات ذهبت أدراج الرياح وعلي الأخص التعهد بأن يحكم الرئيس بشراكة وطنية, أي أن تكون التيارات السياسية الثلاثة الأخري شريكا كاملا في الحكم. فما حدث خلال الأيام المائة الماضية هو بوضوح شديد حكم الإخوان المسلمين, ومشروع الإخوان المسلمين, وإقصاء متعمد للقوي الوطنية الأخري, وفرض مشروع للدستور فاقد للشرعية, وتزامن هذا الانحراف عن التعهدات بأداء شديد السوء لحكومة الدكتور هشام قنديل أمعن في الاعتداء علي حرية وكرامة المواطنين وحقوقهم الأساسية في الحياة الكريمة. أما ما يحدث علي صعيد حرية وكرامة الوطن فهو الكارثة بعينها فالاستقلال الوطني في خطر في ظل الاعتماد المفرط في إدارة الاقتصاد علي المعونات الخارجية, وإعادة إنتاج نظام التبعية الذي جري تكريسه في ظل النظام البائد, وهو النظام الذي أخذ من الرأسمالية أسوأ صورها وربط التنمية بالتبعية الكاملة للولايات المتحدة الليبرالية الجديدة, وهي التبعية التي امتدت إلي خضوع ذليل للكيان الصهيوني والمشروع السياسي لمعاهدة السلام مع الدولة الصهيونية. فالتعهد باحترام معاهدة السلام واستمرار التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني كان ابرز التزامات الرئيس محمد مرسي غير عابئ بخطورة استمرار سيناء منقوصة السيادة بسبب تلك الالتزامات في وقت تفاقمت فيه مخاطر تحويل سيناء إلي منطقة متنازعة السيادة مع هذا الكيان الذي يسعي جاهدا إلي استعادة احتلالها. الحرص الشديد لمؤسسة الرئاسة علي عدم المساس من قريب أو بعيد بمعاهدة السلام مع الكيان الصهيوني, ولو حتي مجرد تعديلها بما يعيد لمصر سيادتها الكاملة علي أرضها في الرد, وعدم تعليق مؤسسة الرئاسة علي التعنت والعجرفة الإسرائيلية علي الدعوة الشعبية المصرية لتعديل تلك المعاهدة, كان مجرد مؤشرات علي هذا الانحراف إلي أن جاءت رسالة الرئيس محمد مرسي للرئيس الإسرائيلي. فرسالة الرئيس محمد مرسي إلي رئيس الدولة الصهيونية شمعون بيريز المتضمنة في خطاب اعتماد السفير المصري الجديد لدي هذه الدولة جاءت مفجعة للضمير الوطني بكل ما تضمنته من عبارات وكلمات إطراء ومديح للكيان المجرم وقادته الإرهابيين وتحمل مؤشرات انتكاس هائلة لحرية الوطن وكرامته سوف تمتد حتما إلي حرية المواطن وكرامته بكل ما يعنيه ذلك من تهديد لشرعية حكم الرئيس. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس