عزمي عبد الوهاب: فيما يبدو ولعا بالاختزال, سنريح أنفسنا كثيرا, حين نعاين خارطة الإبداع العربي, فنشير إلي آحاد هنا وهناك, كأن نقول سيف الرحبي في عمان, وعبد العزيز المقالح في اليمن, فلا نري بجانبهما أحدا, مثلما سنري قاسم حداد عازفا وحيدا في برية البحرين, رغم وجوده في قلب حركة أدبية, استوعبها كيان أسهم حداد في تأسيسه, ونعني به أسرة الأدباء والكتاب في البحرين ومجلة كلمات التي صدرت عن هذا الكيان. بدا قاسم حداد بقامته المديدة هو الأبرز, والقادر علي انتهاك منظومة المركز والأطراف التي استمرت طويلا, وجعلت من القاهرة ودمشق وبغداد مراكز ثقافية, وفيما عدا ذلك ليس سوي هامش, يدور في فلك هذه الدوائر الثلاث. أفلت الشاعر البحريني الكبير من هذه المنظومة, بمنجزه الأدبي, ليجبر الجميع, من المشرق إلي المغرب, علي متابعة إنتاجه المتنوع, كشاعر ينتمي إلي جيل السبعينيات, ذلك الجيل الذي اجترح آفاقا جديدة في الكتابة, أفلتت هي الأخري من حصار الذائقة التقليدية, لتدخل الدرس الأدبي, كموجة من موجات تطوير ديوان العرب. منذ أن أصدر صاحب يمشي مخفورا بالوعول ديوانه الأول البشارة في العام1970 وهو لا ينقطع عن الكتابة, ما يفسر غزارته الشعرية ف اليوم الذي يمر دون أن أقرأ أو أكتب يشعرني بأن الكون ليس علي طبيعته, وينتابني الذعر خشية أن تنساني القراءة والكتابة لذا لا يتوقف قاسم عند شكل إبداعي بعينه, فكل الفنون تلتقي عند عتبة بيته, لينجز أعمالا مشتركة مع آخرين, مثل أمين صالح في كتاب الجواشن حيث يشتبك الشعر بالنثر, كما يشارك بالكتابة أسماء مثل ضياء العزاوي وخالد الشيخ وصالح العزاز, وأدوات هؤلاء التشكيل والغناء والموسيقي والفوتوغرافيا. لا يكف صاحب ورشة الأمل عن الحركة بحثا عن نص إبداعي, أو اصطيادا لجملة شعرية, يرضي بها فضاء لقصيدة, كأن يقول في نص عنوانه أسماء, بديوانه لست جرحا ولا خنجرا الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب, في سلسلة إبداع عربي: لو كنت أعرف كل أسمائي نص يحمل اشتراطات الكتابة الحديثة من كثافة وتوهج وإيجاز, نص مفتوح علي تأويلات عدة متروكة لقارئ غير كسول, كما أن هذه الجملة الوحيدة في عراء الفضاء الطباعي للصفحة, تشي باغتراب أبدي, يعايشه الشاعر يوما بيوم, لحظة بلحظة, في مجاهدة كبيرة للتوصل إلي هوية هو مؤرق بها, وكل طرق الوصول إليها محفوفة ب اللا يقين, فيبدو البديل لهذه الحالة الملتبسة, الارتكان إلي حائط, يلاحقه الشاعر عبر مفردة البيت التي تتكرر كثيرا في الديوان. قال قاسم: ما إن يدركني المساء بعيدا عن البيت حتي تنتابني حالة من الذعر الغامض, أي مكان خارج البيت هو الغربة, وأحيانا المنفي ورغم أن الشاعر كثير الأسفار, والسفر نقيض البيت, فإنه يقول: بعد ساعات قليلة أندم علي ارتكاب هذه الحماقة إذن ليس في الدنيا ما هو أجمل من البيت, والبيت ليس مجرد جدران مصمتة, إنه حياة تسعي نحو المستقبل, وذاكرة تحتفظ بالزمن, أو كما يقول هو في ديوانه الذي يتخذ عنوانا جانبيا: أنت البكاء الطويل في الليل: جنة البيت لي بابها أو فالحق في البيت ودائما ما يأتي( البيت) موازيا ل( الاسم) فالبيت وطن, والاسم شارة وجود إلي أين ستبعد عن البيت الأرض كروية/ والطريق دائرية والروايات تدور/ وليس لاسمك معني/ في غير دارك ؟ لا يدرك ضرورة( البيت) غير ابن لبحار, غادر مهنة آبائه بحثا عن لؤلؤة مستحيلة في خليج العرب, وعمل حدادا ونجارا وبناء, وعاش طفولة تبحث عن عمل باستمرار, وتراوحت حياته بين البحر والبيت: هل عادت الأسماء للنسيان هل في بيتنا للبحر نافذة وهل للبيت مرآة نري فيها الغياب ؟ الأسئلة لا ترتاح إلي يقين جاهز, ما يؤدي بالشاعر إلي سماوات مفتوحة علي التجريب, شكلا ومضمونا, ولا توجد محطات ثابتة, فحفيد طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي البحريني صاحب المعلقة الشهيرة, اختار الإيقاع المنفلت من الصرامة والانتظام, ليخلع فيما بعد هذا القميص الذي يضيق به, ويندفع نحو قصيدة النثر في حراسة تاريخ من التجريب, رغم أنه لا يثق في التصنيفات الرائجة, لأنها لا تستقيم مع حساسيته الشخصية. لست جرحا ولا خنجرا ديوان يري في كل أشياء الحياة ضروبا من الموسيقي, لكنها مستمدة من الطاقة الإيقاعية للغة, إذن هناك أماكن أخري للموسيقي, بعيدا عن الأيدي الحانية لالخليل بن أحمد الفراهيدي, ويمكن للشعر أن يأتي من أبسط الأشياء, وأكثرها تغلغلا في التجربة, قطار قاسم حداد لا توقفه المحطات الثابتة, فهو الشاعر المناضل والسجين السياسي السابق, صاحب التجربة العميقة في الشعر والحياة والعمل السري, والمتجاوز لذاته من ديوان لآخر, المنفلت من أسر التفعيلة إلي هذيانات النثر: خذ النفس الأخير عميقا خذه واعبر مضيقك نحو البيت فليس من الحكمة ترك البيت وحده.