كان من المتصور أن ثورة يناير قد فتحت الكثير من الأبواب الموصدة, وأنهت الكثير من التابوهات, وكسرت الكثير من القوالب الجامدة, وتلك التي يطلق عليها سابقة التجهيز الصالحة لكل زمان ولكل موضوع. بيد أنه وبعد مرور19 شهرا علي الثورة نجد لزاما علينا جميعا أن نعترف بأن ذلك التصور لم يكن في محله, أو علي الأقل قد جانبه الصواب. وحيث إن الحديث ينصب الآن عن استطلاعات الرأي العام في مصر اتهاما لها وللقائمين عليها بدءا من عدم مهنيتهم وتغليبهم للاعتبارات السياسية وانتماءاتهم الأيديولوجية, وانتهاء بالقول بفشل تلك الاستطلاعات وصعوبة أن يكون في مصر استطلاعات يمكن الاعتماد عليها والوثوق في نتائجها, فإن الموقف من تلك الاستطلاعات علي هذا النحو يقدم دليلا واضحا لعدم صحة التصور الذي صاحب ثورة يناير. ذلك أن عملية استطلاع الرأي العام في مصر قد ظلت مقيدة طوال العقود الستة الماضية لأسباب سياسية وأمنية واقتصادية, لا مجال الآن للخوض فيها, وإن كانت قد شهدت خلال السنوات العشر الأخيرة تقدما يعتد به, خاصة مجال استطلاعات الرأي العام في القضايا السياسية الذي أخذ دفعة قوية منذ تحمل مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام عبء القيام بهذا النوع من الاستطلاعات قبل نحو15 عاما. ومع اندلاع ثورة يناير والآمال العريضة للمصريين في الانتقال إلي دولة أكثر ديمقراطية وشفافية, داعب الأمل نفوس القائمين علي استطلاعات الرأي العام في مصر في الاستفادة من تلك الحالة, فكان أن تزايدت بشكل واضح الاستطلاعات التي يتم إجراؤها مستفيدة في ذلك من زوال أهم العقبات, وهي تلك المتمثلة في العقبة السياسية/ الأمنية. ولم يكن متصورا لدي القائمين علي الاستطلاعات أن تبلغ دقة نتائجهم نظيرتها في دولة مثل الولاياتالمتحدة التي بدأت مسيرتها في الاستطلاعات قبل ما يزيد علي100 عام. وعلي الرغم من أن المراكز العريقة في الاستطلاعات في الولاياتالمتحدة نفسها مثل جالوب قد فشلت بكل معني الكلمة أكثر من مرة في التنبؤ بنتائج الانتخابات, آخر الاتهامات أو الأدلة التي تساق لإثبات فشل استطلاعات الرأي العام في مصر, هو ما جاء في مقال الدكتور محمد شومان في أهرام السبت6 أكتوبر, حيث أرجع فشل الاستطلاعات لخطأ سماه غير مقصود هو الاعتماد في سحب العينة علي الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء, وهو الأمر الذي لا يجوز من وجهة نظره بعد الثورة. ولأن الدكتور شومان أستاذ مرموق في الإعلام فلابد أن أفترض أنه اتهام غير مقصود أيضا. ذلك أن هذا الاتهام يعني أن التعداد في مصر كانت توجهه الاعتبارات السياسية وهو أمر يجافي الحقيقة تماما. كما أن فكرة وضع محددات مسبقة لاختيار عينة تمثل المجتمع المصري تمثيلا حقيقيا من قبيل ضرورة تمثيل الشباب بشكل أفضل لا تمت للمهنية ولا لعلم الإحصاء بصلة, والأكيد أيضا أن الاعتماد علي إطار العينة من الجهاز المركزي للإحصاء وبنفس الطريقة المهنية التي كانت تتم بها قبل الثورة, وإضافة إلي كونه يعبر عن عين الصواب, يتيح الفرصة للمقارنة بين وضعين مختلفين تماما ومعرفة تأثير متغير كبير بحجم الثورة المصرية. وإذا كان من الضروري أن يلتزم القائمون علي الاستطلاعات بميثاق مهني وأخلاقي وربما يمكن التفكير في وضع قانون لتنظيم تلك العملية, فإنه من الضروري أيضا الاعتراف بأهمية تلك الاستطلاعات وبحاجة مصر الجديدة إليها, وبأنه لا مستفيد من إفشال ذلك النوع من البحوث, وفشلها لا يعني مطلقا الاصطفاف لإفشالها والقضاء عليها.