كما فتحت ثورة يناير الكثير من الأبواب المغلقة أمام الحريات العامة, فتحت الباب أيضا أمام إمكانية إجراء استطلاعات الرأي العام علي نحو ما يحدث في كل الدول التي تتمتع بمستوي يعتد به من الحريات. ولا يعني ذلك بالطبع أنه لم تكن هناك استطلاعات للرأي العام في مصر قبل ثورة يناير, بيد أنها استطلاعات في أغلبها تتعلق بالمستويين الاجتماعي والاقتصادي منذ منتصف القرن الماضي, بينما تأخرت الاستطلاعات ذات الطابع السياسي إلي أواخر العقد الأخير من القرن الماضي حينما شرع مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام في إجراء استطلاعات للرأي العام تتعلق بالقضايا السياسية, بدأها باستطلاع في عام1998 أثار الكثير من اللغط وتعرض المركز بسببه لهجوم إعلامي كبير. وبصفة عامة كانت الاستطلاعات قبل الثورة تعاني من الكثير من العقبات كان أهمها علي الإطلاق أولا التصاريح الأمنية. حيث كانت الجهات الأمنية مترددة كثيرا في السماح بإجراء تلك الاستطلاعات حرصا منها علي احتكار المعلومات, أو بالأحري ما يمكن أن يبني عليه باعتباره معلومات, في الوقت الذي كثيرا ما كانت بعض الجهات الأجنبية تجري استطلاعات في مصر وتنشر نتائجها وتنقل الصحف المصرية عنها ما يتسق وسياستها التحريرية الداعمة في معظمها للنظام القائم. وثانيا عقبة التشكيك في نتائج الاستطلاعات ومن قبله التشكيك في قدرة جهات مصرية علي القيام بمثل تلك الاستطلاعات, والتشكيك في أهلية الشعب المصري للإدلاء برأيه في مثل هكذا استطلاعات. ومع أن الأوضاع السياسية في مصر ما زالت بعيدة عن أن تكون مناسبة لإجراء استطلاعات الرأي العام والاعتماد علي النتائج التي تخرج بها الاستطلاعات في حال إجرائها, فإن التطورات التي تمر بها مصر منذ اندلاع ثورة يناير خاصة فيما يتعلق بارتفاع سقف الحرية والقدرة والرغبة في التعبير عن الرأي تمثل بداية يعتد بها للخوض في إجراء استطلاعات الرأي العام والاعتماد إلي حد بعيد علي ما تخرج به من نتائج, خاصة وأن الاستطلاعات التي أجريت قبل الانتخابات البرلمانية قد تمكنت إلي حد بعيد في التنبؤ بحصول الإسلاميين علي نسبة كبيرة من الأصوات وهو ما حدث بالفعل. لم يكن من المتصور أن تحقق استطلاعات الرأي العام التي تجري للمرة الأولي بهدف توقع نتائج الانتخابات في مثل الظروف التي تمر بها مصر أن تحقق نجاحا100% أو نجاحا يضاهي ما يحدث في الدول التي قطعت شوطا طويلا في الديمقراطية وإجراء استطلاعات الرأي العام. ولعل اختلاف النظرة إلي تلك النقطة هو السبب الأساسي فيما تتعرض له الاستطلاعات من هجوم. فمنتقدو الاستطلاعات رغم إقرارهم بصعوبة الأمر في مصر يحاسبون الاستطلاعات علي أنها لم تنجح بنسبة100% ويقارنون بينها وبين استطلاعات الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا, دون الأخذ في الاعتبار العوامل الأخري التي تسهل عملية التوقع والتي يأتي في مقدمة دور الرأي العام نفسه وحرصه علي إبداء رأيه بمطلق الحرية. بينما القائمون باستطلاعات الرأي العام وانطلاقا من إيمانهم بأهمية الاستطلاعات كأداة بحثية لابد أن تأخذ مكانها في الدراسات العلمية كانوا يسعون إلي وضع نقطة البداية أو الانطلاق لهذا الحقل طامحين إلي تحقيق قدر من النجاح يعتد به ويصلح ليتم البناء عليه لاحقا في ذلك المجال. ومن ثم كان الإصرار علي ألا يكون مرجع الإخفاق في الفشل راجعا إلي الأمور المنهجية المتعلقة بالاستطلاعات, في حين تظل فرص الفشل واردة علي أن يكون ذلك متعلقا بعوامل أخري تتصل بالرأي العام وجديته في المشاركة في مثل تلك الاستطلاعات. وحيث أن المقام لا يتسع للتعرض إلي نجاحات وإخفاقات كل المؤسسات التي أجرت استطلاعات للرأي العام, فإنه سيتم الاكتفاء هنا بالإشارة إلي ما حققته استطلاعات الرأي العام التي أجراها مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام, والتي وصل عددها إلي ثمانية استطلاعات نشرتها جريدة الأهرام منذ الأسبوع الأخير من مارس2012, وحتي20 مايو2012, وذلك علي النحو التالي: أولا: نجحت استطلاعات الأهرام ومعها كل المؤسسات الأخري التي أجرت استطلاعات في حصر المنافسة في الجولة الأولي بين الخمسة الكبار وهم عمرو موسي وأحمد شفيق وعبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي ومحمد مرسي. ثانيا: انفردت الأهرام, دون غيرها, في استطلاعها المنشور يوم الأحد20 مايو2012, بتحديد المرشحين الأكثر حظا لخوض جولة الإعادة, وأكدت الأهرام أن الإعادة ستكون بين اثنين من ثلاثة هم عمرو موسي وأحمد شفيق ومحمد مرسي. ثالثا: انفردت استطلاعات الأهرام, دون غيرها, بملاحظة التراجع وربما الانهيار في نسب تأييد كل من الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والسيد عمرو موسي. رابعا: انفردت الأهرام بتوقع نسبة الأصوات التي سيحصل عليها الفريق أحمد شفيق, إذ حصل في الاستطلاع الأخير للأهرام علي22.6%, بينما حصل بالفعل في الانتخابات علي نسبة23.7%. خامسا: انفردت استطلاعات الأهرام بتراجع تأييد حزب الحرية والعدالة عما كان عليه الحال في الانتخابات البرلمانية. إذ أشارت نتائج استطلاعات الأهرام إلي أن ما لا يقل عن40% ممن صوتوا لحزب الحرية والعدالة في الانتخابات البرلمانية لن يصوتوا له مرة أخري. وهو ما تحقق تقريبا في ضوء حساب الأصوات التي حصل عليها محمد مرسي وهي5.7 مليون تقريبا مقابل حوالي10 مليون صوت حصل عليها الحزب في الانتخابات البرلمانية. سادسا: انفردت استطلاعات الأهرام بحصر المنافسة بين تيارين أساسيين هما التيار المحسوب علي النظام والتيار الإسلامي, وهو ما تحقق بالفعل, حيث يخوض جولة الإعادة ممثلا عن كل منهما. سابعا: رغم الإشارة إلي تراجع تأييد السيد عمرو موسي, فإن الاستطلاعات فشلت في توقع المدي الذي يمكن أن يصل إليه ذلك التراجع. ثامنا: رغم الإشارة إلي تزايد تأييد السيد حمدين صباحي, فإن الاستطلاعات فشلت أيضا في توقع المدي الذي يمكن أن يصل إلي ذلك التزايد. تاسعا: فشلت الاستطلاعات في توقع نسبة التصويت في الإسكندرية. إذ جاء التصويت مخالفا لكل التوقعات. عاشرا: نجحت الاستطلاعات في توقع التأييد العالي للفريق شفيق في الوجه البحري, وخاصة في محافظتي المنوفية والشرقية. وبمقارنة النتائج التي توقعها مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام ببعض النتائج التي توقعتها مؤسسات عالمية مشهود لها والتي أجرت بعض الاستطلاعات بشأن الانتخابات الرئاسية يتضح أن نتائج مركز الأهرام كانت الأفضل علي الإطلاق. ففي استطلاع لمعهد بروكنجز الأمريكي أشرف عليه الدكتور شبلي تلحمي أحد أشهر أساتذة الرأي العام والاستطلاعات ونشرت نتائجه قبيل الجولة من الانتخابات مباشرة, أظهرت نتائجه تصدر الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح بنسبة تأييد32% وتلاه عمرو موسي بنسبة28% ثم أحمد شفيق بنسبة14% وحمدين صباحي ومحمد مرسي ب8% لكل منهما, وهي النتائج التي تبتعد كثيرا عن النتائج الفعلية. كما أظهر استطلاع أجري في أبريل الماضي لمركز جالوب تدنيا واضحا لشعبية جماعة الإخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة, إذ أوضح استطلاع جالوب أن42% فقط أبدوا تأييدا لجماعة الإخوان المسلمين في أبريل مقابل63% أيدوها بعد تشكيل البرلمان في فبراير الماضي, أي بتراجع قدره21%, بينما توقع مركز الأهرام ترجع تأييد الإخوان بنسبة40% علي الأقل وهو ما حدث بالفعل طبقا للنتائج الفعلية. أما عن نسبة المشاركة المتوقعة في الانتخابات فكما توقع استطلاع مركز الأهرام أن تكون في حدود90%, فإن استطلاعا أجراه مركز جالوب نشرت نتائجه قبل يومين من الانتخابات أوضح أن86% من مواطني مصر يخططون للتصويت في تلك الانتخابات. باختصار فإن استطلاعات مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام بشأن انتخابات الرئاسة حققت الكثير من النجاحات بينما أخفقت في بعض الأمور, إلا أن المهم أن الإخفاق لا يرجع لنقص في الخبرات أو لصعوبات منهجية, وهذا هو الأهم كونه يعني أن أمام استطلاعات الرأي العام في مصر الفرصة للانطلاق نحو آفاق أرحب تسمح بتطوير آليات لتفادي ما شاب العملية من اخفاقات.