مثل النداهة التي تنادي عشاقها وتهتف اليهم فاذا بهم يهرعون هائمين نحوها, تاركين كل شئ خلفهم, يبدو هنا مكاوي سعيد في عمله الاخير( مقتنيات وسط البلد). ووسط البلد له دوما عشاقه ومريدوه, ومكاوي سعيد هو بالتأكيد احد هؤلاء العشاق الذين هاموا حبا( بالمعشوقة) عرفوا اسرارها. دخائلها كل صغيرة وكبيرة في حياتها.. والأهم من ذلك كله قدروا سحرها وجمالها حتي وهي تخطو نحو سنوات الكبر والشيخوخة. نعيش هنا في صحبة41 شخصية رسمها الكاتب بقلمه الرشيق, وهي علي حد كلماته من الوجوه المألوفة في جلسات المثقفين او علي أطرافها., لم يشغلني كثيرا هذا السؤال الذي طرح علي الكاتب في اللقاءات الصحفية: مدي نسبة الحقيقة والخيال في شخصيات وسط البلد؟ اذ أنني كنت اعرف مسبقا الاجابة فالخيال عنصر اساسي لدي المبدع حتي لو استند في سطوره علي جزء كبير من الحقيقة, يظل الخيال إحدي أدواته الحيوية. تأخذك الشخصيات علي الفور بحكاياتها وتفاصيلها وغرائب سلوكياتها وتصرفاتها ويأخذك التعجب في كثير من الاحيان وانت تتابع ردود أفعالها الفوضوية. معظم وجوه مكاوي الواحدة والاربعين غريبة الاطوار.. تعيش حياة الصعلكة.. مهمشة بالكاد تجد طعامها وشرابها(!) بعضهم جاء للقاهرة للمرة الأولي يلتمس خطاه.. وكان الملتقي مقاهي وسط البلد.. في قهوة الحرية.. وريش.. وزهرة البستان.. وكافتيريات لاباس. جاء يحملون بين أياديهم حلمهم البكر الاخضر علي أمل أن يزرعوه ويروه يكبر وينمو ويترعرع ويصير حقيقة. هناك من يحلم بالمجد والشهرة أن يصبح نجما سينمائيا تشير اليه الايادي.. وهناك من يحلم أن يصبح( نجيب محفوظ) جديدا.. والبعض الآخر يحلم بالثراء والنفوذ.. وهكذا يصير( وسط البلد) ملتقي الاحلام! وهناك وجوه أخري عاركت الحياة.. وخاضت بين أمواجها العاتية المتلاطمة فضربتها هذه الأمواج ضربة قاسية, فتكسرت طموحاتها وماتت احلامها, وصارت مقاهي وبارات وسط البلد( المرفأ) الوحيد الآمن في هذه الحياة. وبعضهم لا يملك من هذه الدنيا حطاما كل ما يشغله هو البحث عن الزاد والزواد واصطياد( فريسة) تتكفل بالمصاريف وتدفع الحساب(!) وهناك وجوه ذكية لامعة, تاهت وضاعت وتبعثرت موهبتها في أرجاء مقاهي ومطاعم وبارات وسط البلد. استطاع الكاتب بحق ان يقدم لنا رصدا عذبا وحكيا حميميا يجعلنا نتابعه في شغف وسعادة معا وان كنت تمنيت ان يعرض لنا وجوها اخري سوية وايجابية الي جوار تلك الوجوه المهمشة التي تهوي الصعلكة. والكتاب الذي ينقسم الي جزءين الجزء الأول يضم وجوه شخصيات وسط البلد, وأما الجزء الثاني فيحوي في صفحاته اسماء وحكايات المقاهي والبارات والمطاعم والمنتديات الثقافية التي اشتهر بها وسط البلد يعد بمثابة( قراءة خاصة) في أحوال وأجواء وسط العاصمة. ذاكرة المكان تأتي هنا جنبا الي جنب مع ذاكرة الشخصيات لتكمل معها ملامح المشهد بجميع مفرداته( الانسانية البشرية) و(المكانية الواقعية) صانعة معها توثيقا تاريخيا من المهم رصده هنا قبل ان تتوه وتضيع معالمه مع مضي السنوات. والكتاب أشبه بلوحة( الموزاييك) العريضة التي تحمل في جنباتها مفردات متنوعة عديدة, ظل مكاوي بصبر ودأب شديدين يضع بلاطاتها الصغيرة الملونة جنبا الي جنب إلي ان اكتملت وصارت لوحة كبيرة عنوانها( وسط البلد)! بقي أن نشير هنا إلي القالب الأدبي الذي اختاره الكاتب, فهو لون من ألوان( القصة القصيرة الصحفية) إذا جاز لنا هذا التعبير.. كتابة عفوية وبريئة.. تدخل القلب مباشرة, ربما لصدق كلماتها وبساطة متنها.. حكايات مكاوي تحمل معها أطيافا من البشر والناس العادية التي نشاهدها في الشوارع ونلقاها في الطرقات ولا نكترث بها كثيرا.. تجسد همومهم وتعكس أحلامهم.. حكايات ومشاهد ووجوه جمعها( وسط البلد). لوحات عمرو الكفراوي صادر عن دار الشروق..