.. وأظن ثانيا أن عام 1973 هو بداية لنقلة كيفية في مسار الحضارة الإنسانية, إذ في السادس من أكتوبر من ذلك العام, وهو يوم كيبور (يوم الغفران) عند الشعب اليهودي حدث هجوم مفاجئ علي اسرائيل من سوريا شمالا ومصر جنوبا. وفي ظرف ثمان وأربعين ساعة كان وجود اسرائيل مهددا بالزوال. فقد انهار خط بارليف في سيناء ودمر سلاح الطيران الاسرائيلي بسبب ضربه بالصواريخ. وفي لمح البصر أرسلت أمريكا أسلحة إلي اسرائيل قيمتها بليونا دولار فاستعادت اسرائيل قوتها وتقدمت. وعندما أعلن وقف اطلاق النار في24 أكتوبر كانت اسرائيل قريبة من دمشق ومن الضفة الغربية لقناة السويس. بيد أن حرب يوم كيبور لم تكن مجرد حرب بل كانت حدثا محوريا في تاريخ القرن العشرين, علي حد تعبير هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا في ذلك الزمان. إلا أن هذه العبارة لم يكن في الإمكان فهمها إلا بعبارة أخري قالها أيضا كيسنجر: كنت علي دراية بأنني أتعامل مع انسان عظيم...فقد كانت للسادات قوة احتمال لا تباري في إحساسه بالعزلة الملازمة لانسان يريد تحريك العالم من مفاهيم مألوفة إلي مفاهيم لم تعهدها من قبل. ومغزي هذه العبارة أن السادات كان يريد إحداث نقلة كيفية في مسار الحضارة الانسانية. والسؤال إذن: ما هي هذه النقلة الكيفية؟ في شهر مايو من عام 1973 التقيت أحد سفراء دول أوروبا الغربية في جلسة محدودة لمناقشة احتمالات الحرب والسلام. كان رأيي أن السادات مضطر إلي إشعال حرب محدودة تنتهي بمعاهدة سلام تشير بنودها إلي فكرة محورية, وهي أن تكون هذه الحرب المحدودة هي آخر الحروب, ويكون سلام لا تعقبه حرب. وذهل السفير وعلق قائلا: هذا رأي غير متداول لأن المتداول أن السادات عاجز عن الدخول في معركة حربية ضد اسرائيل. وكان ردي أن كيسنجر قال للسادات: اذا أردت الدخول في مفاوضات مع اسرائيل فلابد من إحداث تغيير في الوضع القائم. و هذا القول يشي بضرورة إشعال حرب محدودة تفرض علي المتحاربين الدخول في مفاوضات ليس فيها منتصر أو مهزوم, الأمر الذي دفع كيسنجر إلي منع جولدا مائير من تدمير الجيش المصري الثالث المحاصر قائلا لها: أكرر القول بأن قرارك هذا هو بمثابة انتحار لاسرائيل لأنك تدمرين فرصة عقد مفاوضات علي النحو الذي تطالبين به. ثم استطرد كيسنجر قائلا: إن تدعيمنا لاسرائيل مشروط, إذ تم وضع خط أحمر وهو الامتناع عن تدمير الجيش الثالث. والذي دفع كيسنجر إلي وضع هذا الشرط هو قول السادات له بأن الاتحاد السوفيتي هو العدو الحقيقي. وهو في قوله هذا كان علي يقين من أن كيسنجر كان يريد طرد السوفيت من الشرق الأوسط. وقد تم ذلك الطرد بالوفاق وليس بالاضطرار. ومع تعدد لقاءات كيسنجر مع السادات فان لقاء 7 نوفمبر 1973 يظل محفورا في ذاكرة كيسنجر عندما وجد نفسه أمام أحد الفراعنة الذين رآهم في المتحف المصري. وعندئذ دارت في ذهنه هذه العبارة: إن المستقبل وحده هو الكفيل بأن يخبرنا اذا ما كان السادات قد بدأ حركة تاريخية تمنع البشرية من العودة إلي الوراء, أو أنه مثله مثل الفرعون إخناتون الذي كان يحلم بالتوحيد وسط جحافل من آلهة مصرية قائمة منذ آلاف السنين قبل أن يكون التوحيد مقبولا من البشرية. وأيا كان الأمر فان تأسيس السلام سيكون هم السادات. والسؤال التحدي هو علي النحو الآتي: هل مازال السلام الدائم حلما؟ إن معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية محاصرة بخمس أصوليات: أصولية مصرية وأصولية غزاوية وأصولية سيناوية وأصولية ايرانية وأصولية باسم الله في جنوب لبنان. وهذه الأصوليات تريد تدمير المعاهدة بل تدمير اسرائيل ذاتها ومع ذلك لم يحدث شيء من هذا القبيل. والسؤال بعد ذلك: هل أجبت؟ المزيد من مقالات مراد وهبة