بقلم: د. سلطان أبو علي - وزير الاقتصاد الأسبق : ربما لم يستحوذ موضوع اقتصادي علي قدر من الكلام والنقاش مثل موضوع الدعم فقد امتد الحديث والجدل حوله منذ ستينيات القرن العشرين إلي الآن, ولم نتخذ من الأعمال إلا قليلا. وهذه حالة من الحالات التي تصور مصداق المثل القائل من يتحدث كثيرا, لا يعمل إلا قليلا. وقد عرضت جميع الأفعال الممكنة للتعامل مع الدعم, لدرجة طبع كوبونات الدعم التي سوف توزع علي المستفيدين ترشيدا للدعم, وعملا علي وصوله إلي مستحقيه. وتم ذلك من عهد الدكتور عبد الرزاق عبد المجيد, نائب رئيس الوزراء الأسبق ووزير الاقتصاد والمالية والتخطيط, الذي اعتبره الرئيس السادات, رحمهما الله, إرهارد مصر في عام1979 غير أن هذه الكوبونات لم تستخدم, ودخلت المخازن, والله وحده يعلم مصيرها. ولا يجب التفكير في موضوع الدعم باستقلال عن حزمة السياسات المطبقة في الدولة أو المرغوب في تطبيقها, إذ إن المطلوب هو الاستقرار والتنمية والعدالة المستدامة, وليس الإبقاء علي الدعم أو الغائه. أركان قضية الدعم وكي نذكر القاريء بعناصر موضوع الدعم, نورد فيما يلي بإيجاز شديد الأسئلة الرئيسية التي تثار حول هذا الموضوع. أولا: هل الدعم مطلوب أم لا؟ والإجابة هي نعم, وهو معمول به في معظم دول العالم غنيها وفقيرها. ثانيا: لمن يقدم هذا الدعم أو من يستحقه؟ خلافا للاعتقاد السائد عندنا في مصر, فإن الدعم لا يستحق لمحدودي الدخل من المستهلكين فقط, بل يقدم أيضا لبعض المنتجين الذين يعملون في مجالات الصناعات الوليدة التي لها مستقبل مشرق بعد فترة وجيزة من الزمن, وأولئك الذين يحققون أهدافا اقتصادية قومية. مثل زيادة فرص التوظف, وزيادة الصادرات, وتحسين حالة الاحتياطيات الدولية, وتخفيض المديونية الداخلية والخارجية وغيرها. ثالثا: ما مقدار الدعم الذي ينبغي أن تقدمه الدولة؟ لا توجد اجابة عامة علي هذا السؤال, ولكن تتوقف علي أمرين معا هما مقدرة الدولة المالية علي تقديم الدعم, واحتياج المستهلكين والمنتجين إليه. فإذا كانت الدولة مليئة ماليا, ولا يوجد من يحتاج إلي الدعم, فلا يوجد دعم في هذه الدولة, وكذلك إذا كانت الدولة فقيرة, وماليتها بها عجز, ويوجد كثير من القطاعات التي تطالب بالدعم, فإن الموازنة العامة لا تقدمه نظرا إلي أن العين بصيرة, ولكن اليد قصيرة. أما إذا كانت المالية العامة غنية فإن الدولة تقدم الدعم بتوسع كبير, مثل تغذية الأطفال, وتقديم خدمات كبيرة لهم وغيرها, كما يحدث في دول الرفاهية التي يمثلها دول مثل النرويج والسويد. ولذلك فلا يوجد قاعدة عامة لتحديده. رابعا: توقيت الدعم بمعني هل يكون الدعم لفترة محدودة أم يستمر أبد الآبدين؟ من حسن السياسات الاقتصادية أن يقدم الدعم لفترة محدودة, بعدها يجب أن يقف الاقتصاد علي قدميه, وذلك شأنه شأن الشجرة التي يوضع لها دعامة, فإذا ظلت محتاجة إليها طول الوقت, فيجب اقتلاعها وزراعة شجرة قوية, يشتد ساقها ويستغلظ بحيث تستوي علي ساقها وتصمد أمام التقلبات والمثال الآخر الطفل الذي يتناول البزازة فلابد أن يجيئ وقت يفطم فيه. والبطاقات التموينية احدي الأدوات الرئيسية لتقديم الدعم للمستهلكين, فهي لا تستخدم إلا في أوقات الحروب وتلغي بعدها, أما عندنا فهي مازالت قائمة إلي الآن! خامسا: هل يقدم الدعم عينا أم نقدا؟ أي هل تباع السلع المدعمة بأقل من سعرها الحقيقي, أم تباع به مع دفع الفرق نقدا لمن يستحقه, منتجا كان أم مستهلكا؟ تقضي مباديء الكفاءة الاقتصادية بدون الدخول في تفاصيل أن الدعم النقدي أكثر كفاءة من الدعم العيني. سادسا: الدعم والكفاءة الاقتصادية: نحن نعيش في عالم تشتد فيه المنافسة بين الأمم في الداخل والخارج ويجب علينا أن نكون تنافسيين, وأن يتحسن ترتيبنا بين الدول لا أن يتأخر كما يحدث الآن. وهذا يتطلب أن يقدم الدعم إلي السلع النهائية وليس مستلزمات الانتاج, وذلك من أجل ضبط الحسابات الاقتصادية الرشيدة ومعرفة التكلفة الحقيقية للسلع والخدمات المنتجة. وتطبيقا لهذا المبدأ, فإن دعم الطاقة يستحوذ علي النصيب الأكبر من الدعم, أي نحو58% من اجمالي الدعم المقدر بنحو110 مليارات جنيه. فيحسن أن تباع الطاقة بالأسعار الحقيقية بدون دعم, ومن يستحقه من صناعة, أو وسائل نقل يقدم له نقدا من أجل منع ارتفاع الأسعار ارتفاعا كبيرا. سابعا: عدم بيع السلعة الواحدة بأكثر من سعر, سعيا وراء وصول الدعم إلي مستحقيه, يطالب البعض ببيع بعض السلع بسعر منخفض لفئة من المستهلكين( المواطنين مثلا) وبسعر أعلي لفئات أخري( الأجانب مثلا). وهذه سياسة اقتصادية خاطئة, تؤدي إلي الانحراف والفساد وهدر الموارد, ما لم يتم التمييز بين السلعتين وفصل السوقين تباع فيهما. وهذا يتطلب تدخلات إدارية معقدة باهظة التكاليف, وينتهي بها الأمر إلي فشل هذه السياسة. وجدير بالذكر أن هذه السياسة طبقت لفترة وجيزة في الصين في أوائل ثمانينيات القرن الماضي, والغيت نتيجة لفشلها. الوضع الاقتصادي الراهن المباديء الاقتصادية السابقة معروفة وقتلت بحثا ولا تحتاج إلي مزيد من الدراسة. وما نحتاج إليه الآن هو العمل, وتنفيذ سياسات كفء, حتي ولو كانت مرة, مثل تناول المريض للدواء سعيا للشفاء علي الرغم من مرارته, ومما يبرر سرعة اتخاذ القرارات بشأن الدعم وغيره الحقائق التالية: (1) عجز الموازنة العامة الكبير الذي يصل إلي10% من الناتج المحلي الاجمالي ويقدر بنحو140 مليار جنيه. كما يستحوذ الدعم علي25% من اجمالي النفقات العامة مما يسلب من الدولة قدرتها علي تحسين خدمات الصحة والتعليم والتطوير. كما يؤدي هذا العجز إلي زيادة الدين العام المحلي. وتقدر الفوائد عليه وأقساطه بنحو ربع النفقات العامة. وكل هذه المؤشرات تعبر عن ضعف الأوضاع المالية في مصر مما يتطلب سرعة معالجتها قبل أن تستفحل عن ذلك. (2) زيادة الاستهلاك من كثير من السلع الاستراتيجية, بحيث تحولنا من مصدرين لها, إلي مستوردين. ومن ذلك البترول ومنتجاته فبعد أن كنا مصدرين أصبحنا مستوردين صافيين له, ونستورد السكر بعد أن كنا نصدره, وكذلك الحال بالنسبة للقمح والأرز وغيرهما. ويرجع السبب الرئيسي في ذلك إلي انخفاض اسعار هذه السلع مما يشجع علي زيادة استهلاكها, وارتفاع وارداتها, ومن ثم حدوث عجز في ميزان مدفوعاتنا, يؤدي إلي زيادة الدين العام الخارجي, وتآكل الاحتياطيات الدولية من العملات الأجنبية التي انخفضت من نحو36 مليار دولار في نهاية عام2011 إلي نحو15.5 مليار دولار حاليا. (3) انخفاض نسبة الادخار القومي الي الناتج المحلي الاجمالي مما يؤدي إلي انخفاض معدل النمو وارتفاع نسبة البطالة. وتحتاج إلي زيادة هذه النسبة من مستواها الحالي وهو نحو16% إلي الضعف تقريبا. وهذا لن يتم إلا إذا قيدنا الاستهلاك غير الضروري الذي تؤثر فيه الأسعار الحقيقية في المقام الأول. ماذا نفعل؟ في ضوء ما سبق, نحتاج إلي أفعال قوية لإقالة الاقتصاد المصري من عثرته, وهذا يحتاج إلي حزمة سياسات اقتصادية من بينها سياسة الدعم التي نركز عليها هنا. وأهم الاجراءات العاجلة, التي تنفذ في اطار برنامج زمني واضح هي: أن تطلع الحكومة الشعب علي حقيقة الموقف الاقتصادي, ومتطلبات علاجه, وأن تبدأ بنفسها واعطاء القدوة والمثل في الالتزام بالحد من نفقاتها, والحد من التبذير والاسراف, وذلك بهدف بناء جسور الثقة بينها وبين الشعب بفئاته المختلفة, من مستثمرين. ومنتجين, ومستهلكين. الذي يستحق الدعم النقدي في رأيي هم العاملون بالحكومة والقطاع العام ممن تقل درجاتهم المالية عن وكيل وزارة, خاصة بعد زيادات المرتبات الأخيرة. ويضاف إلي أولئك أصحاب المعاشات الذين يقل معاشهم عن1000 جنيه شهريا وليس لهم مصدر دخل آخر. ويعارض الكثير مبدأ الدعم النقدي تحت زعم صعوبة تطبيقه, وهو قول حق يراد به باطل. فلا يوجد. مبدأ كامل حيث إن الكمال لله وحده. والمقياس المقترح ليس كاملا, ويمكن أن يستكمل بانشاء هيئة تظلمات للنظر في طلبات من لم يحصل عليه ويعتقد أنه يستحقه. ويخصص لهذه الهيئة جزء من المبالغ التي سوف تقتصد نتيجة لإلغاء الدعم العيني. إن الانتظار من أجل التوصل إلي المعيار الكامل لمن يستحق الدعم النقدي, سوف يصيب الحكومة بالعجز والشلل كما تم في ظل حكومات ما قبل الثورة. الغاء دعم الوقود للمصانع بدءا بتلك المستخدمة لها بكثافة مثل الأسمنت والحديد, والسيراميك, والأسمدة بالرغم من بيع منتجاتها بالأسعار العالمية أو أكثر, الأمر الذي حقق لها أرباحا خيالية علي حساب المستهلكين. ومع هذا الاجراء يجب أن تراقب الحكومة اسعار هذه المنتجات, وتمنع الارتفاع غير المبرر للأسعار عن طريق تحديد هامش ربح علي تكاليف الانتاج الجديدة. ويوجد منذ فترة طويلة قانون يسمح للحكومة بذلك غير أنها لا تطبقه, وآن الأوان لذلك. تخفيض بطاقات التموين يبلغ عدد المستفيدين من بطاقات التموين حوالي65 مليون مواطن. ومن نتائج بحث ميزانية الأسرة, الذي يصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء, أن نسبة الفقراء في عام2011 بلغت25% من مجموع السكان. فإذا كان عدد السكان حاليا84 مليون نسمة تقريبا, فيكون عدد من يستحق بطاقة التموين الآن إلي حين إلغائها نحو21 مليون نسمة. ومعني ذلك أن هناك من يحصل علي مخصصات تموينية63 مليون مواطن من السلع المدعومة بدون وجه حق وتخفيض هذه المخصصات يقلل من الفساد, ويسهم في تحسين أوضاع الموازنة العامة للدولة, كما يكون له آثار حميدة علي ميزان المدفوعات. عدم الغاء الرغيف المدعم الذي يباع بخمسة قروش للرغيف, مع تفعيل النظام الذي طرح كثيرا وهو فصل إنتاج الرغيف عن توزيعه. ومن ثم يباع الرغيف المدعم بهذا السعر, ولكن تدفع المخابز الثمن الحقيقي للسولار, والدقيق. إن الاجراءات المقترحة, سوف يتواكب معها بعض الارتفاع في الأسعار, ولكن المشاهد أن الأسعار ترتفع أيضا في ظل وجود الدعم نتيجة لأوضاع العرض والطلب والتنظيم المؤسس السيء للأسواق المصرية.. والطريقة التي ترتفع بها الأسعار حاليا غير منظمة وعشوائية, ولذلك فهي ضارة. أما المقترح هنا, فإن ارتفاع الأسعار سوف يكون منظما ومبرمجا ومتدرجا, يستطيع الناس في ظله ترتيب أوضاعهم بطريقة أفضل. كما أنه سوف يؤدي بعد فترة وجيزة خاصة في ظل الرقابة الحكومية الفعالة إلي استقرار الأسعار. وقد عجزت الحكومات السابقة عن فعل ذلك خوفا علي مقاعدها, أما الحكومة الحالية فهي منتخبة والمفروض أن يثق الناس في افعالها, فهل ستقدم علي ذلك أم تكرر العجز وعدم فعالية نظام ما قبل ثورة25 يناير العظيمة.