في وقت تشتد فيه صور الاستقطاب السياسي بين القوي الليبرالية والقوي الاصولية التي تنسب نفسها الي الاسلام تبدو الحاجة ملحة الي اعادة النظر في الكثير من المقولات التي تتعمد الخلط بين الدين والتدين. ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي صدر أخيرا للمفكر عبد الجواد ياسين تحت عنوان الدين والتدين, التشريع والنص والاجتماع. وهذا الكتاب هو باكورة اصدارات دار التنوير اللبنانية انطلاقا من مكتبها الذي بدأ العمل في القاهرة مؤخرا. و يعرف المتابع للاعمال الفكرية التي سعت الي اعادة قراءة التاريخ الاسلامي ومراجعته, القيمة التي تحتلها أعمال عبد الجواد ياسين وهو قاض مصري يعمل منذ سنوات علي تقديم مشروع طموح يقوم علي مسارين, الاول: تناول العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ والثاني: نقد النظرية السياسية في الاسلام وفي سياق هذا البحث قدم ياسين من قبل مجموعة من المؤلفات منها مقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة, ومن بعده كتاب تطور الفكر السياسي في مصر خلال القرن التاسع عشر و السلطة في الإسلام وقد أثارت هذه المؤلفات جدلا كبيرا في عدة عواصم عربية وكانت من بين الكتب الأكثر مبيعا ووضعت الي جوار مساهمات مفكرين بارزين من أمثال محمد عبد الجابري ومحمد اركون وحسن حنفي ونصر أبو زيد, ومحمد شحرور وحسين مروة, لكن أعمال ياسين مضت في طريق مغاير بتناولها المبتكر لموقع فكرة القانون في بنية الدولة الاسلامية, لكنها للأسف لم تجد في مصر ما تستحق من اهتمام, ربما لان صاحبها يعيش في الخارج منذ سنوات طويلة. وينظر الكتاب الجديد في مفهوم الدين وفق السياق التوحيدي, من زاوية العلاقة بينه وبين الاجتماع, لافتا الي أن الدين يقوم علي مبدأ الوحي الالهي وهو مصدر مفارق للانسان لكن الانسان مع ذلك هو موضوع الدين ومجاله ولذلك فأن الدين لا يظهر الا من خلال التجلي في الواقع الاجتماعي وهو ما يعني أن حضور الاجتماع في البنية الدينية ضروري كما ان الانسان في الوقت نفسه هو الذات التي تتلقي الدين وتمارسه في صور التدين ومن هنا لا سبيل الي ادراك الدين والتعبير عنه الا بوسائل الاجتماع البشرية. وانطلاقا من عمق معرفته بفكرة القانون والسياق التاريخي الذي ولدها يطرح ياسين جملة من الاسئلة شديدة الاهمية في اللحظة الراهنة حيث يحتدم الجدل حول بعض نصوص الدستور الجديد ومدي مطابقتها لما يزعم بعض ممثلي القوي السياسية صلته بفكرة الشريعة الاسلامية ومن تلك الافكار علي سبيل المثال ما يطرحه الكتاب في صورة سؤال كبير هو: هل يمكن للقانون الذي يعالج معطيات نسبيه أن يكون جزءا من الدين كحقيقة مطلقة؟ فالنص الديني الصحيح يتضمن ماهو مطلق ثابت يمكن وصفه بأنه من الدين ذاته ماهو اجتماعي قابل للتغير ولا يجوز الحاقه بالدين. لان الايمان بالله وحده والاخلاق الكلية وحدهما المطلق في الدين, أما التشريع فهو مرتبط بالتاريخ وعلي امتداد التاريخ تراكمت حول النص الديني منظومات ورؤي ومفاهيم واحكام كونت في تحليلها الاخير ثقافة دينية أوسع من منطق البنية الدينية التي يحملها النص. ومما هو جدير بالملاحظة في الكتاب تأكيد المؤلف علي أن القانون لم يسجل حضورا مبكرا في الحالة الاسلامية فلم تحضر الدولة وبالتالي القانون حيث خلت المرحلة المكية في الدعوة من أية نصوص ذات مضمون تشريعي وخلت في الوقت ذاته من ايه اشارات أو وعود بالدولة وكيف بدت دينية خالصة كما يناقش كيف اخذت هذه الوضعية تتغير تتدريجيا في العهد المدني حيث بدأت النصوص التشريعية تظهر وتتزايد تزامنا مع تصاعد النشاط السياسي المرافق للدعوة والاتجاه بها نحو بناء الدولة. ويناقش الكتاب العلاقة بين النشاط الفقهي ومساره في التاريخ الاسلامي وفكرة تأسيس الدولة ذاتها معتبرا ان الدولة الاموية كشفت منذ البداية عن روح علماني فطري لا يطابق بين وظيفة الدولة( المندفعة بقوة البدايات) وطبيعة الدين الذي كان قد بدأ يترسخ اجتماعيا بصورة أبطأ. وعلي الرغم من المقولات الدينية التي استخدمت لتبرير الاستبداد السياسي انذاك لم يزعم الامويون أن وظيفة الدولة هي حراسة الدين وهو ما فعله العباسيون لاحقا بزعم حمل لواء الاصلاح الديني, فالفترة التي استغرقها الحكم الاموي كانت هي فترة التكون التي احتاجها الدين الجديد لكي يتجذر في الواقع ويتحول الي ثقافة كذلك شهدت تلك الفترة تكريسا للافتراق السياسي وتحويله الي مذاهب دينية مما كان يعني تلقائيا توسع دائرة الجدل النظري والتحرر من الرؤية السلفية التي كانت تفصل الحديث عن الفقه, فتقدم الحديث باعتباره وحيا موثق الاسناد الي الله وتعتبر الفقه مبنيا علي الحديث وليس العكس. وخلال المرحلة العباسية حدث تحول جذري حيث تم تكريس الدمج ليس فقط بين الدين والدولة بل بين المجتمع والدولة تحت مظلة الدين, وفي هذا السياق تكونت ثقافة التدين الكامل حيث حل الفقه كمنظومة احكام موضوعية محل القانون المكتوب الذي كان يمكن تصور صدوره عن الدولة كما حل الفقهاء كهيئة معنوية افتراضية محل مؤسسة تشريعية تصور قيامها كذلك ضمن مؤسسات الدولة و بحسب الكتاب فأن الدولة الاسلامية لم تصدر طوال تاريخها قانونا مكتوبا موحدا رغم نصيحة وجهها ابن المقفع للخليفة المنصور دعاه فيها الي اصدار تشريع عام يلزم به القضاه في جميع الانحاء لكن لماذا لم تتجه الدولة الي اصدار قانون مكتوب؟ يتساءل المؤلف: هل ترجع المسألة الي تضخم الفقه وقيامه بدور القانون أم ان لها جذورا أعمق ؟ ناتجا عن السياق الاجتماعي الديني الذي نشأت فيه اصلا, فهي دولة ولدت من رحم قبلي لم يعاين من قبل فكرة الدولة ويقوم علي نظام قانوني عرفي يختلف جذريا عن ما عرفته الدولة الرومانية المعاصرة لها من تأسيس لفكرة القانون كما انها هذه الدولة ولدت في سياق ديني واخذ اندماجها في الدين مسارا تصاعديا بحيث صارت منظومة النصوص تشكل قانون الدولة المكتوب لكننا لم نعد والحال هكذا أمام قانون واحد محدد المعالم وانما أمام مجموعات متنوعة واحيانا متضاربة من الاحكام والاراء المذهبية.