تحت هذا العنوان, قبل نحو عشرين عاما مضت, أجريت تحقيقا صحفيا بالصفحة الثالثة بالأهرام تناولت فيه ظاهرة تعدد الأجهزة الرقابية في مصر من خلال آراء المتخصصين في هذا الشأن, وكيف أنها لم تعد فاعلة في ظل قيامها بمراقبة بعضها بعضا لحساب القيادة السياسية بالطبع, مما ألقي بظلال سلبية مباشرة علي دورها الأساسي وهو مراقبة الفساد الإداري في الدولة. وكانت نتيجة ذلك أن استشري الفساد في مجتمعنا لدرجة أصبح يصعب معها المواجهة, إلي أن جاءت ثورة 25 يناير وما استتبعها من كشف لجزء يسير من هذا الفساد, إلا أنه كان كفيلا بالوقوف علي خطورة الحالة التي وصلنا إليها, ولكن المزعج في الأمر هو أن شيئا لم يكن, فلم نتدارك حتي الآن الموقف لإصلاح هذا الخلل, كما لم نر في الأفق ما يشير إلي تراجع حجم الفساد المستمر والمستشري في كل أرجاء حياتنا, حتي وصل الأمر إلي اتهامات متبادلة بين هذه الأجهزة بالقصور والتقصير تارة, والفساد بداخلها تارة أخري. ولأن كل جهاز من هذه الأجهزة يعمل بمنأي عن الآخر بلا شفافية ولا صلاحيات, تتناسب مع الهدف الذي أنشئ من أجله, فكان من الطبيعي أن نسمع عن استشراء الفساد داخل بعضها, وليس هذا فقط بل التستر علي الكم الأكبر من القضايا التي اكتملت أركانها أمام رئيس الجهاز, وبدلا من أن تحال بأصحابها إلي قفص الاتهام, تم حفظها في أدراج المسئولين, ومن بينهم رئيس الجمهورية السابق شخصيا. وكانت الشكوي المريرة للأعضاء الشرفاء في هذه الأجهزة, خاصة الرئيسية منها, وهي: الرقابة الإدارية والجهاز المركزي للمحاسبات ومباحث الأموال العامة, هي أن القضية الواحدة تتم متابعتها بتحقيقاتها ومستنداتها وتسجيلاتها بالصوت والصورة علي مدي شهور عديدة ثم يكون مصيرها في النهاية مجهولا لأسباب قد تكون معلومة, تتعلق أحيانا بسطوة ذلك الفاسد وقربه من صناع القرار وأحيانا أخري بصلاته-, للأسف بعواصم أجنبية ذات نفوذ وقد يكون أسباب إغلاق هذه الملفات غير واضحة, إلا أن النتيجة في النهاية واحدة وهي أن الفاسد يظل أحد نجوم المجتمع, رغم خطورته علي الحياة العامة وعلي اقتصادات الوطن ككل. والغريب.. أن لا أحد يعلم كم عدد الأجهزة الرقابية في مصر حيث تتداول الأرقام 20 جهازا تارة و30 تارة أخري وما بينهما تارة ثالثة, وهو أكبر دليل علي التخبط الذي عاشه مجتمعنا علي مدي عقود عديدة, إلا أن المؤكد هو وجود العديد من إدارات الرقابة داخل جميع الوزارات والهيئات بخلاف الأجهزة والهيئات المركزية إلا أنها- مكتملة- قد فشلت فشلا ذريعا في ضرب الفساد في مهده أو حتي كشفه بعد حدوثه وهو ما جعلنا الآن نتحدث عن مليارات الجنيهات المهربة وآلاف الأفدنة المنهوبة دون أن نضع يدنا سوي علي 10% من حجم هذا الفساد وربما أقل ما دام استمر الحال الآن كما كان في السابق دون محاسبة من كانوا علي رأس هذه الأجهزة أو حتي دون وجود ما يشير إلي إمكان المحاسبة في المستقبل. وإذا علمنا أن إمكانات أحد الأجهزة الرقابية بالدور الحادي عشر, كما قال لي أحد قادتها, كانت تتيح لهم التنصت في وقت واحد علي 1000 خط هاتف موبايل وأرضي دون استئذان الجهة القضائية المختصة, وإذا علمنا, كما قال لي أيضا أحد قادة الأجهزة الأمنية المنحلة, إنهم يحتفظون حتي الآن في مواقع سرية بكل ذلك الماضي الأليم من تجسس وتنصت, لأدركنا كيف كانت تدار هذه الأجهزة سواء الرقابية أو الأمنية منها وكيف أنهم اخترقوا بيوتنا وحرماتنا دون رادع قانوني أو اعتبار ديني أو وازع أخلاقي, وكانت النتيجة ما نحن فيه الآن من هم وغم وترد اقتصادي واجتماعي, سوف نحتاج إلي نصف قرن من الزمان لتجاوزه إذا كانت هناك إرادة, فما بالنا إذا لم تكن؟!. فقد كشف تقرير صدر عن هيئة النيابة الإدارية عن أن هناك حالة فساد داخل أجهزة الدولة كل دقيقتين, بما يصل إلي 1440 حالة فساد في اليوم الواحد ما بين اختلاسات ومخالفات إدارية وإهدار للمال العام. وقد توارت هذه القضايا خلف فساد كبار رجال الدولة, كما كشفت دراسات أخري عن أن ثلث إيرادات الدولة كانت تنفق بطرق غير شرعية في ظل قصر عمل الجهات الرقابية علي كتابة تقارير دون تحويلها إلي محاكمات, وهو ما أكده الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات بقوله: إنه قدم 1000 تقرير رقابي إلي رئاسة الجمهورية ومجلس الشعب ورئيس مجلس الوزراء والوزراء والرقابة الإدارية دون جدوي, وربما كان هذا هو السبب وراء قيام عدد من أعضاء الجهاز بتشكيل رابطة أطلقت علي نفسها مراقبون ضد الفساد بهدف الكشف عن الفساد داخل الجهاز نفسه, معتبرين أن رئيس الجهاز يتعمد إخفاء التقارير. وبالرغم من أن الجهازالمركزي للمحاسبات أنشئ منذ عام 1942 في وزارة النحاس باشا تحت مسمي ديوان المحاسبة وذلك بنصوص قوانين تضمن استقلاله للقيام بدور فعال في الرقابة علي الأموال العامة ومعاونة البرلمان في أداء دوره الرقابي, فإن العاملين بالجهاز يرون أن القانون رقم 144 لسنة 1988 المنظم لعمل الجهاز الذي تم تعديله مرة أخري عام 1998 لم يعد يرقي إلي متطلبات المرحلة, مطالبين بإعادة النظر في القانون وإعادة هيكلة الجهاز واستكمال كوادره بمتخصصين وإجراء تعديلات تشريعية, تتيح الإحالة للنيابتين العامة والإدارية, وذلك لأن التبعية هنا سواء للرئاسة أوللبرلمان تفقده الاستقلالية علي الرغم من أن أولي مهامه الرقابة الشاملة علي أموال الدولة وهو ما يستدعي, إلي جانب استقلالية الجهاز, تغليظ العقوبة علي من يمتنع عن الرد علي تقاريره أو يراوغ في تنفيذها. كذلك.. فإن ملف هيئة الرقابة الإدارية هو الآخر يجب أن يفتح بشفافية ووضوح بدءا من تلك الأزمة الداخلية التي يعيشها أعضاء الهيئة والخاصة بالتفرقة المالية في المعاملة بين من هم ضباط جيش ومن هم ضباط شرطة علي الرغم من أن طبيعة العمل واحدة, ومرورا بالتفرقة أيضا في رئاسة الهيئة التي ظلت منذ إنشائها بالقانون 54 لسنة 1964 بعد أن كانت قسما تابعا للنيابة الإدارية تصب في مصلحة ضباط الجيش علي اعتبار أن الدولة كانت تحكم عسكريا, وانتهاء بأهمية إعادة النظر في قانون الهيئة بما يتناسب مع المتغيرات وبما يحقق استقلالها الكامل بمنأي عن تدخل أي من السلطات الرئاسية أو التنفيذية أوالبرلمانية, خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن هيئة الرقابة الإدارية كانت نموذجا مشرفا في الأداء بغض النظر عن سطوة القيادة السياسية عليها وهو ما حد من فاعليتها علي اعتبار أن رئيس الهيئة كان يتم تعيينه بقرار جمهوري وهو أمر يتحتم معه إعادة النظر في هذا الإجراء مستقبلا. وإذا كانت مباحث الأموال العامة هي الأخري, وهي إحدي أفرع وزارة الداخلية, قد قامت بدور مهم في إطار اختصاصاتها فقد بدت مهمتها الآن في مفترق طرق, حيث أزمة الشرطة ككل مع الشعب والتي مازالت تلقي بظلالها علي مجمل الأوضاع وهو ما يتطلب إعادة النظر في تبعية هذا الجهاز وإعادة هيكلته بما يعيد الثقة إلي القائمين عليه وتفعيل دوره هو الآخر من خلال دعم رسمي واضح لجهاز الشرطة بصفة عامة حتي يمكن للشارع أن يستقر وهو ما يعود بأثر إيجابي مباشر علي المؤسسات العامة منها والخاصة, خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن المؤسسات الأمنية ككل هي بمثابة جهاز رقابي هو الأهم والأكثر فاعلية بين كل هذه الأجهزة التي لا تستطيع العمل في النهاية دونه سواء من حيث التنسيق معه أوالاعتماد عليه, وهو أمر غاية في الأهمية ربما قد غاب عن أذهان الكثيرين حين مناقشة قضية تفعيل دور الأجهزة الرقابية. وتجدر الإشارة هنا.. إلي أن توصيات المجموعة العربية للأجهزة العليا للرقابة والتي تضمنت السعي إلي استقلال رؤساء الأجهزة الرقابية من حيث التعيين والمزايا والحصانة القانونية والعزل وتوفير الحماية القانونية لأفراد الرقابة حين أداء أعمالهم, إلي جانب استقلالية رؤساء الأجهزة العليا للرقابة وتوسيع السلطات الممنوحة لاختصاصات هذه الأجهزة, كما تحتم الحالة الراهنة التي تعيشها مصر إعادة هيكلة هذه الأجهزة أيضا وإعادة النظر في طبيعة عملها بحيث تعمل علي الرقابة الوقائية لمنع الفساد وليس محاربته فقط, وربما كان تغيير كل من رئيس جهاز الكسب غير المشروع ورئيس هيئة الرقابة الإدارية أخيرا بمثابة مؤشر علي سياسة جديدة في هذا المجال إلا أن الرأي العام سوف يظل يتعجل ملامح هذه السياسة من خلال الكشف عن مزيد من القضايا التي تم التعتيم عليها في الماضي حتي يمكن أن نوقن أن شيئا ما قد حدث. وربما كان ما يتردد الآن عن النص في الدستور الجديد علي ضم كل هذه الأجهزة والهيئات تحت مظلة واحدة أو مسمي واحد وهو هيئة مكافحة الفساد, مؤشرا للعزم أيضا علي بدء مرحلة جديدة في هذا الشأن, إلا أن الأمر سوف يظل رهنا بمدي استعداد القيادة السياسية لمنح هذا الجهاز صلاحيات كاملة في الأداء والرقابة والإحالة للقضاء دون تدخل من أي سلطة كانت ودون اعتبار لشخصية أولمكانة ذلك المتهم ما دام مدانا بما يكفي للإحالة وإلا فإننا نعود للوراء, كما يصبح من المهم حينذاك العمل علي تطهير هذا الجهاز من الداخل قبل بدء مهام عمله حيث من المنتظر أن تطول صلاحياته جميع قيادات الدولة بلا استثناء ولن يكون مقبولا حينئذ تلك الممارسات السابقة التي روعت آمنين حصلوا علي براءات, أو تواطأت مع فاسدين لم يكن ليتم الكشف عنهم لولا قيام ثورة شعبية. علي أي حال.. هناك تجارب دولية عديدة في هذا المجال يجب الاستفادة منها ولدينا خبراء كثيرون في هذا الشأن يجب الاستعانة بهم والوثوق فيهم, وفي الوقت نفسه لدينا بيئة خصبة للفساد ندر تكرارها, وهو ما أسهم في انتشار الرشوة والتهرب الجمركي والضريبي وإهدار المال العام والاستيلاء وتسهيل الاستيلاء علي أملاك الدولة وتزوير أوراق رسمية وجشع وسوق سوداء واستغلال نفوذ وإهدار مال عام ومحسوبية, وهي أمور ترتبط في مجملها بالتربية والنشأة والتعليم والتي شهدت جميعها تراجعا واضحا خلال العقود الماضية وهو أمر يحتم إعادة النظر في المنظومة الحياتية ككل لبناء مجتمع صالح يقوم علي أسس متينة من الحق والعدل والمساواة, وإلا فإن زيادة عدد الأجهزة الرقابية حتي إلي ضعف العدد القائم لن تؤتي ثمارا, كما أن تغليظ العقوبات إلي أعلي مستوياتها لن يكون مجديا, وبذلك فإن الحالة المصرية كاملة متكاملة في حاجة إلي إعادة نظر, وإلا فسوف نظل نجلد الذات إلي ما لا نهاية ولا ندري من يراقب من؟! المزيد من مقالات عبد الناصر سلامة