في أكتوبر من عام 1971 دعيت أستاذا زائرا بجامعة الخرطوم للمساهمة في تطويرها. وقد جاءتني الدعوة من وزير التعليم الدكتور محيي الدين صابر في وزارة الرئيس جعفر نميري (2009-1930) الذي قام بانقلاب مفاجئ في 25 مايو 1969 أفرج بعده عن الإخوان المسلمين المعتقلين في سجون السودان. والسؤال بعد ذلك: ماذا كان حال جامعة الخرطوم وقتذاك؟ كانت موضع صراع بين أقوي حزبين في القارة الافريقية الحزب الشيوعي وحزب الاخوان المسلمين. ووقتها كنت منحازا للماركسية ومسئولا عن تحرير ملحق الفلسفة والعلم في مجلة الطليعة والتي كان صاحب الامتياز في إصدارها هو الرئيس جمال عبد الناصر. كان الصراع خفيا بيني وبين الاخوان المسلمين, ومن ثم ارتأوا إجراء حوار معي في ندوتين كان الحضور فيهما يقترب من الأربعمائة, وفي إحدي الندوتين كنت أتحدث عن دور الأديان في العالم المعاصر, وذكرت من هذه الأديان أحد عشر دينا. وهنا ضجت القاعة, وعندما تساءلت عن سبب هذه الضجة جاءني الجواب بأن ليس ثمة سوي دين واحد هو الاسلام وما عدا ذلك فليس بدين. وجاء ردي علي النحو الآتي: أنا ملتزم بما هو حادث في حضارة اليوم بما تموج به من أديان كما كانت كذلك حضارة الأمس مع تباين في أدوار هذه الأديان, ومن ثم فليس من حق أي سلطة دينية الزعم بأنها السلطة الوحيدة التي تملك المطلق. وبعد الانتهاء من عقد الندوتين علمت أن ثمة تيارا اسلاميا يقاوم تيار الاخوان المسلمين بقيادة مصلح ديني اسمه محمود محمد طه (1909-1985). والسؤال اذن: من هو محمود محمد طه وما هي آراؤه الدينية وماذا فعل به جعفر نميري؟ التقيته في مقره بأم درمان وسط مئات من حوارييه الذين هم أعضاء في حزبه المسمي الحزب الجمهوري والذي تأسس في عام 1945 برئاسته. وكانت الغاية من تأسيسه بعث الاسلام من جديد. وفي نهاية اللقاء الذي استمر ساعتين أهداني ثلاثة كتب من تأليفه: طريق محمد (1966) والرسالة الثانية من الاسلام (1967) وتطوير شريعة الأحوال الشخصية (1971). وفي رأيي أن أهم هذه الكتب الثلاثة هو الكتاب الثاني, وفي مقدمته يحدد مغزي الرسالة الثانية فيحصرها في السنة. والسنة عنده هي شريعة النبي, الخاصة به, وهي مخاطبته هو علي قدر عقله. وفرق كبير بين عقله وبين عقول عامة الناس. ثم بفضل هذه العبارة في الباب السادس تحت عنوان الرسالة الثانية أثار مسألة الديمقراطية وعرفها بأنها حق الخطأ. وهو تعريف مشتق من حديث للنبي, إن لم تخطئوا وتستغفروا فسيأتي الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم. وهذا التعريف للديمقراطية علي الضد مما يذهب إليه الأصوليون من أنهم ملاك الحقيقة المطلقة, ومن ثم يمتنع الحق في ارتكاب الخطأ, أي يمتنع الحق في الاختيار, أي يمتنع الحق في إعمال العقل. وفي إطار هذه الأصولية أصدر الرئيس جعفر نميري قوانين الشريعة الاسلامية المسماة ب قوانين سبتمبر 1983 فعارضها محمود محمد طه ومن معه من أعضاء حزبه وأصدروا منشورا عنوانه هذا أو الطوفان. وإثر ذلك حوكم محمود محمد طه وأربعة من تلاميذه في 7 يناير 1985 بتهمة الردة وصدر الحكم بالاعدام ونفذ في صباح الجمعة 18 يناير 1985, وبعدها دخل النظام السوداني في عقوبات دولية أفضت في نهاية المطاف إلي استقلال جنوب السودان عن شماله مع انحياز الجنوب إلي الحضارة الغربية أو بالأدق إلي الحضارة الانسانية تاركا الشمال لمصير بائس. المزيد من مقالات مراد وهبة