والسؤال إذن: مَنْ هو محيى الدين صابر؟ كان رئيساً لقسم العلوم الاجتماعية باليونسكو من عام 1959 إلى عام 1968، ثم وزيراً للتربية والتعليم فى عهد الرئيس جعفر نميرى من عام 1968 إلى عام 1972، ثم مديراً للمنظمة العربية من عام 1975. أما علاقتى مع محيى الدين صابر فقد بدأت بعد تعيينه وزيراً للتربية والتعليم، إذ طلب منى فى شهر يوليو من عام 1970 أن أقبل الإعارة للسودان أستاذاً للفلسفة المعاصرة بجامعة الخرطوم إلا أن الرئيس جمال عبدالناصر لم يوافق على هذا المطلب، لأنه كان قد أصدر قراراً بتعيينى عضواً فى هيئة التدريس بالمعهد العالى للدراسات الاشتراكية، وكان وقتها يريد منى أن أعلم الدارسين كيف يتفلسفون لكى يتجنبوا الوقوع فى «القولبة»، أى فى قالب فكرى متزمت يعاند مواكبة ما يحدث من تغيرات داخلياً وخارجياً. ومع موت عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970 أغلق المعهد ثم أعيد فتحه فى ديسمبر 1970 ثم أغلق للمرة الثانية وبلا رجعة فى أبريل 1971. وعندئذ أصبح الباب مفتوحاً أمام وزير التربية والتعليم محيى الدين صابر لدعوتى إلى السودان أستاذاً زائراً بقسم الفلسفة بجامعة الخرطوم فقبلت وأرسلت إلىّ الدعوة فى 21 أغسطس من عام 1971، ورحلت إلى الخرطوم فى أكتوبر من العام نفسه، وكان الرئيس جعفر نميرى قد أفرج عن «الإخوان المسلمين». دعونى للحوار معهم فى ندوتين.. وفى إحدى الندوتين كنت أتحدث عن دور الأديان فى العالم المعاصر، وعن كيفية توظيفها لمحاربة المعسكر الشيوعى، وذكرت من هذه الأديان أحد عشر ديناً، وهنا ضجت القاعة إلا أننى لم أفهم سبب هذه الضجة فتساءلت، فقيل لى: ثمة دين واحد هو الإسلام، وما عدا ذلك فليس بدين. وجاء ردى على النحو الآتى: «أنا ملتزم بما هو حادث فى حضارة اليوم من أنها تموج بالأديان كما كانت كذلك حضارة الأمس مع تباين فى أدوار هذه الأديان، ومن ثم فليس من حق أى سلطة دينية الزعم بأنها السلطة الوحيدة التى تملك المطلق، وأن ما عداها من سلطات دينية أخرى هى سلطات زائفة»، ثم أشرت بعد ذلك إلى كتاب صدر فى 19 مارس من عام 1963 عنوانه «لنكن أمناء لله»، وقد صدرت منه فى الشهر نفسه تسع طبعات، الفكرة المحورية فيه أن صورتنا عن الله يجب أن تزول، فالله ليس هناك ولا هو فوق، إنما هو فى العمق. وفى شهر فبراير من عام 1972 طلب منى الوزير محيى الدين صابر تأليف كتاب فى «الفلسفة للصف الثالث ثانوى عالى القسم الأدبى»، فوافقت بشرط أن ألتقى مدرسى الفلسفة لمدة أسبوعين لكى أدربهم على كيفية تدريس الكتاب فوافق، وقد تم ما اتفقنا عليه، ومع ذلك فأنا لم أحتمل البقاء فى الخرطوم أكثر من ستة أشهر لأن المناخ الفكرى فى جامعة الخرطوم وخارجها أصبح محكوماً بفكر الإخوان المسلمين فطلبت من محيى الدين صابر إنهاء الإعارة، لم يقبل فى البداية إلا أنه وافق على مضض بسبب إلحاحى فداعبته قائلاً: «ستترك منصبك بعد أن أغادر الخرطوم»، أما هو فقد كان كريماً كعادته، إذ أقام حفل وداع دعا إليه بعض الوزراء وبعد ذلك غادرت الخرطوم فى يونيو 1972. وبلغنى بعد ذلك أن كتابى بعد طبعه مُنع من توزيعه على الطلاب، وأغلب الظن أن هذا المنع مردود إلى مقدمتى للكتاب التى تكشف عن مساره الفكرى، إذ ورد فيه أن أى حقيقة مرهونة بزمان معين ومكان محدد بسبب الواقع المتطور، ومن ثم فالحقيقة متغيرة، وفكر من هذا القبيل لا يستقيم مع تحكم ملاك الحقيقة المطلقة فى النظام السياسى السودانى، وأقصد بهم الإخوان المسلمين. وبعد عودتى إلى القاهرة بفترة وجيزة لحق بى الوزير محيى الدين صابر لمحاولة تقريب وجهات النظر بين الرئيس السادات والرئيس جعفر نميرى إلا أنه أقيل من منصبه وهو فى طريقه إلى الخرطوم، ومع ذلك فالعلاقة بينى وبينه لم تنقطع، فقد عُين مديراً للمنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم فى عام 1975، وفى مارس 1978 عقدتُ فى القاهرة أول مؤتمر فلسفى للجمعية الفلسفية الأفروآسيوية التى كنت أشرف برئاستها، وكنت فى حاجة إلى تمويل ضخم لا أملك منه شيئاً فكان من أول الممولين محيى الدين صابر، مع المشاركة بإلقاء كلمة فى جلسة افتتاح المؤتمر، جاء فيها «أن الصراع الدائر بين القيم القديمة للحضارات التاريخية والقيم الجديدة التى خلقتها الحضارة العلمية والتكنولوجية المعاصرة هو صراع شرس وارد فى جميع المجالات، وأن الدول النامية تحاول تمثلها ولكن دون التفريط فى قيمها الخاصة، إلا أن هذه القيم ليس من الميسور أن تدخل فى تعايش مع أنماط الحضارة الحديثة». وأظن أن هذه العبارات التى قالها محيى الدين صابر فى عام 1978 كانت إرهاصات لما يعانيه الآن السودان فى عام 2009. والسؤال إذن: هل إقالة محيى الدين صابر من منصبه الوزارى فى عام 1972 كانت معبرة عن عجز النظام السودانى المحكوم بالإخوان المسلمين عن التعايش مع الحضارة المعاصرة؟