أصدرت مكتبة الأسرة ضمن سلسلة الفكر كتاب " حرية الفكر فى الإسلام " للعالم المرحوم عبد المتعال الصعيدى المتوفى سنة 1971 بتقديم الدكتور محمد صابر عرب الذى أشار فى مقدمته إلى أن الكتاب يقدم نموذجًا للفكر الإسلامى الصحيح الذى يستهدف الحرية بمعناها الحقيقى ويصب فى نبذ التعصب الذى هو صناعة بشرية خالصة لا علاقة لها بصحيح الدين ويأتى هنا شيخنا عبد المتعال الصعيدى كواحدٍ من مدرسة كبيرة شعارها العقل ووسيلتها التفكير وهدفها المصلحة بالمعنى الذى استهدفه الإسلام. أما عن الكتاب فقد قسمه الصعيدى إلى أجزاء رئيسية تناول فيها مفهموم الحرية الفكرية و قال إنها تنقسم إلى الحرية الدينية فى الإسلام ومفهوم الحرية العلمية، وأعقب ذلك بتوضيحه لمعنى الحرية السياسية و ختم كتابه بإيراد جملة أسماء من أعلام الفكر الحر فى الحضارة الإسلامية. وشرع الصعيدى فى توضيح معنى الحرية الدينية فى الإسلام، مركزا على التعريف الحرفي لمعنى الحرية الدينية فقال: إنها حق الإنسان فى اختيار عقيدته الدينية بحيث لا يكون لأحد من الناس أى سلطان عليه فيما يعتقده ولا يجوز استعمال القوة معه فى دعوته إلى عقيدة أو مذهب غير ذلك، بل الجدال بالتى هى أحسن لأنه مما يدخل فى باب المعلوم من الدين بالضرورة اشتراط الحرية فى صحة الاعتقاد. و أوضح رحمه الله أن مفهوم الحرية الدينية مرتبط باجتهاد كل إنسان طالما أن باب الاجتهاد مفتوح ولا يجوز لأحد ادعاء غير ذلك ويبنى الصعيدى على ذلك أن المجتهد إذا أوصله اجتهاده للكفر فلا إثم عليه فى الدنيا ولا تجرى عليه أحكام المسلمين. وتطرق إلى العلاقة بين هذا المفهوم وعلاقته بالعقاب الأخروى فقال: إن العقاب الأخروى ليس إلا مجرد ترغيب وترهيب فى الثواب و العقاب و لا يعكر على الحرية الفكرية والدينية لأن من شاء اهتدى ومن لم يشأ فلا، و نقل رحمه الله ما وصل إليه الشيخ محمود شلتوت أمام شيخ الأزهر الأسبق بأن الكفار من أهل النظر الذى ينظر و يفكر طالبًا للحق حتى إدركه الموت فى أثناء نظره فإنه لا يكون كافرًا يستحق الخلود فى النار عند الله . إما الحرية العلمية عند الصعيدى فهى إطلاق سلطان العقل فوق كل سلطان لأنه وسيلة التفكر الذى هو الطريق الأساس للإيمان و بدونه لا يصل الإنسان للإيمان و حرية التفكر تجعل الإنسان يصل لحرية الاختيار و لا يصح إذن تقييده بطريق معينة من التفكير لأنه يصبح مجبورًا و ليس مختارًا و من هذا لم يبين الإسلام أسلوب المعجزات بل لجأ لمخاطبة العقل مباشرة ، ولما كان العقل أساس الفكر فإن الإسلام حث على طلب العلم وجعله فى حد ذاته غاية و فرق بين علوم الآخرة والدنيا و جعل الأولى مصدرها الشرع والثانية مصدرها العقل و لا تعارض بينهما لحديث النبى "أنتم أعلم بأمور دنياكم". وفى بحثه عن أصل الحرية السياسية فى الإسلام رأى الصعيدى أن الاسلام نص على أن الأمة مصدر السلطات ولها بالتالى الحق فى تعيين الحاكم الذى تريده واختيار شكل الحكم الذى ترغب فيه وللفرد فى الأمة الإسلامية حق إبداء رأيه بل له الحق فى نقده للحاكم طالما يلجأ للوسائل السلمية و ذلك لأن الحاكم تحت الأمة وليس العكس. وأشار رحمه الله إلى أن الأمة الإسلامية صارت على هذا النهج طيلة العصر النبوى وأن الخلافة الراشدة إلى أن استولى الأمويون على الحكم فكان الحكم عضوضًا مستبدًا و المثال الأبرز على ذلك كان فى واقعة استخلاف عمربن الخطاب بنصه على ستة أسماء تأتى للخلافة من بعده فى تكريس حضارى لمبادئ الديمقراطية، وتطرق أيضا لحقوق الأقلية التى راعها الإسلام مستدلاً على ذلك بوجود المنافقين وعلم النبى بهم وبأسمائهم ولكنه مع ذلك لم يحاربهم رغم اشتدادهم فى حربه و مناؤتهم للدعوة خاصة بعد عودة النبى من غزوة بنى المصطلق و محاولتهم الإيقاع بين المهاجرين والأنصار لولا أن النبى تدارك الموقف بحكمته المعهودة. ويعد بحث الجهاد الذى أفرد له الشيخ قسمًا مطولاً من أروع وأعمق أبحاث الكتاب وأكد فيه العالم المرحوم على أن السلام شرع الجهاد للدفاع و ليس للعدوان و ربط الصعيدى بين الآيات التى قد يفهم من ظاهرها أنها تدعو للجهاد و بين علم أسباب نزول هذه الآيات التى يجب أن تحمل على الآيات التى جاءت صريحة فى منع العدوان إلا على من يعادى المسلمين و استدل على ذلك بأن الآيات التى وردت فى سورة الأنفال وكان بها نصوص صريحة على العدوان انتهت بقوله تعالى ,, وإن جنحوا للسلم فاجنح لها و توكل على الله ،، و معنى هذا أن الجهاد لو كان شُرع للعدوان كغاية ما كان القرآن أمر بالامتثال لمعاهدة الصلح و منه أيضا كانت آيات الجزية فى سورة التوبة حيث جعل القرآن الجزية غاية فى قوله تعالى ,, حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون ،، فجعل الجزية لا الجهاد غاية و لم يقل حتى يسلموا و من ذلك فإن الجزية لكسر شوكة المحاربين و إشعارهم بالصغار أى الذل. و فى قسمه الأخير عرض المؤلف لبعض أحرار الفكر الإسلامى وضرب المثل بأبى العلاء المعرى فيلسوف المعرة الأشهر الذى توفى فى سنة 449 من الهجرة و كان قد أصيب بالعمى و هو فى الثالثة من عمره و مع ذلك لم يثنه هذا عن طلب العلم حتى أصبح فيلسوفًا فخرًا للحضارة الإسلامية و تضمنت فلسفته كتابيه" رسالة الغفران "و "لزوم ما لا يلزم" و من المعروف عنه أنه عاش زاهدًا فقيرًا ممتنعًا عن أكل اللحم داعيًا إلى التحرر الفكرى ولم يقارب السلطان ، وبرز النموذج الثانى فى شخصية ابن رشد الفيلسوف و الفقيه المعروف صاحب فلسفة المؤائمة بين الشريعة و الفلسفة فى كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال مما أجبر فلاسفة أوربا على أن يلقبوه بلقب " الشارح " بعدما فض ألغاز منطق أرسطو و كانت وفاته سنة 595 من الهجرة.