للصييتية والموالدية في مصر تأثير بالغ القوة والنفوذ في الوجدان المصري منذ أزمنة بعيدة إلي اليوم, فلديهم من المتاع الموسيقي مدخر لا ينفد علي الرغم من أن بعضهم يتحرك في أفق نغمي محدود لضآلة حظه من التحصيل عند التكوين, أو لمحدودية صوته التي تفرض عليه الاقتصار علي البسيط الشائع من الألحان. ففي العصر الفاطمي علي وجه التقريب نشأت طبقة من المداحين تخصصوا في مدح النبي عليه الصلاة والسلام وآل بيته الكرام. تربوا في أحضان الطرق الصوفية كبطانات لكبار المنشدين الذين يصاحبون حلقات الذكر بالإنشاد الديني, حيث الإنشاد الديني ألحان متنوعة المقامات لقصائد منظومة في لغة فصحي أحيانا, عامية أحيانا أخري, خليط منهما معا في معظم الأحيان. بعضها من تراث الشعر العربي, وأشعار الصوفية علي وجه التحديد, وما تحفل به من سبحات روحية ذات رؤي شعرية غنائية عميقة تهز النفس وتحببها في الإخلاص لله, والسير في طريقه طريق الطهر والصفاء وسلامة القلب, أشعار لعمر بن الفارض ومحيي الدين ابن العربي والحلاج والشبلي والإمام الشافعي وغيرهم. وبعضها الآخر تأليف معاصر علي غرار السابقين. فالجدير بالذكر أنه أقطاب الطرق الصوفية المعاصرين كانوا كأقطابهم العماليق السابقين: أبوالحسن الشاذلي والمرس أبوالعباس وعبدالرحيم القنائي والسيد البدوي والدسوقي ابوالعينين, يكتبون الشعر.. فالشعر هو اللغة الفنية التي تتماهي مع سموقهم الروحي, القادرة علي استقطاب التجليات والفتوحات الروحية. وأتباع هذه الطرق قديما وحديثا يعتبرون أشعار مشايخهم بيانات ومواثيق وعهودا. فإذا كان العهد الذي يتلوه الشيخ علي مريديه ويلزمهم اتباعه أشبه بعقد اتفاق علي سلوك معين من العبادات ابتغاء مرضاة الله, فإن أشعار الشيخ هي الإضاءة المبهرة علي دخيلة الشيخ, هي تجلياته, هي كلمة سره الذي لا يني يستجليها من قصيدة لأخري فالصوفية يبدأون حركتهم أو رفضهم في الذكر بقرار مطمئن هاديء من مقام الباكاه, ويسيرون في هذا منوطا حتي يتم لحركتهم التآلف والإنسجام. ثم يتنقلون بالحركة الي مقام العثيران, فالطرق, فالرصد, فالدوكاه, فالسيكاه.. وهكذا إلي مقام الأنوج, وقد يرتفعون إلي المحيي, إذ يحمي الوطيس, وتبلغ حركة الذكر ذروتها من القوة والسيطرة علي الذاكرين, فترتفع صيحات الوجد من كل جانب, وتتصاعد صرخات المجذوبين تعبيرا عن أحوالهم. وهنا يرتفع صوت قائد الذكر بصيحة عالية قائلا في صوت ممدود عريض: الله.. فيكون هذا إيذانا بانتهاء هذه الطبقة من الذكر, فتسكن الحركة, وتهدأ الجوارح, ويستقر الذاكرون بعض الوقت استعدادا لطبقة ثانية.. ويعتبر الذكر علي الطريقة الليثية التي تنتسب إلي الإمام الليث بن سعد المصري أدخل الطرق في باب الفن الغنائي والموسيقي, لأنهم يوقعون حركة الذكر توقيعا منسجما, ويقطعون الألفاظ والكلمات تقطيعا منغما من الهزج. وهذا ما يمكن المنشد في التفنن, فيجول ويصول, ويجري مايشاء في مقامات النغم شعرا, وتوشيحا ومواليا حتي يخلب ألباب السامعين, ويموج بالذاكرين موجا في بحر الانسجام. ومن ثم كانت الطريقة الليثية أحب الطرق إلي رجال الإنشاد والغناء. أما ضبط الحركة والإيقاع في الذكر فيتولاه رجل من عباقرة الفن يسمونه بقائد الذكر, وهو اشبه بقائد الفرقة الموسيقية, علي أن مهمته أشق وأصعب, لأنه يضبط حركة الذكر في سيرها واندفاعها من جهة, ثم يراعي ارتباطها بنغمة الإنشاد من جهة أخري. وإذن, فحين نعلم أن عبده الحامولي مؤسس نهضة الغناء العربي وباعث دولته والشيخ يوسف المنيلاوي, والشيخ محمد المسلوب, والشيخ سلامه حجازي, والشيخ ابوالعلا محمد, والشيخ درويش الحريري, والشيخ علي محمود, والشيخ زكريا أحمد, حين نعلم أن هؤلاء جميعا كانوا في الأصل منشدين قبل أن يحترفوا الغناء الدنيوي الذي ابتعثه عبده الحامولي, ندرك علي الفور مدي عظمة هذه المدرسة التي أسسها الموالدية من الصوفية لتصبح شجرة ضاربة الجذور في تربة الوجدان العربي, يتفرع منها قامات سامقة في الموسيقي والغناء في مصر والشام وبغداد والمغرب الأندلسي واليمن وجزيرة العرب, يطلع بها مريديه وعلي ما أنعم الله به عليه من فتوحات فيها إشراق وحكمة, فيأخذها المنشدون للتغني بها في مصاحبة حلقات الذكر, وكان لدي المنشدين ثروة نغمية هائلة, ورثوها عن الرواد الأوائل. وقد لا يعرف الكثيرون من أبناء هذا الزمان أن الصوفية كان لهم شغف عظيم بالموسيقي ولهم فيها شغل إيجابي خلاق. يقول أستاذنا الراحل محمد فهمي عبداللطيف في كتاب له بعنوان الفن الإلهي إن الصوفية طبعوا الغناء والموسيقي بطابع خاص, وأعني به طابع الحنان الذي تذوب فيه النفوس وتهيم به الارواح, ذلك أن الغناء عند الصوفية يقوم أصلا علي التضرع والابتهال والرجاء في الله مما يستوجب الرقة والحنان والصفاء الروحي. ثم إنهم يربطون الإنشاد بحركة الإيقاع في الذكر ربطا محكما, والحرص علي الانسجام في الانتقال من طبقة إلي طبقة, ومن مقام إلي مقام مما يبعث في النفس الانسجام والبشاشة. ويقول: إن الصوفية يعتبرون الغناء والسماع أحد المقامات علي الطريق في الوصول الي الله. وهم يسمون هذا الطريق بسفر, أوحج. ولأجل تحقيق الوصول في هذا السفر لابد من المجاهدة في قطع عدة مقامات, كل مقام منها أشبه بمرحلة, وكل مرحلة قائمة علي التي تقدمتها, وهي علي التوالي مقامات التوبة, والورع, والزهد, والفقر, والتوكل, والرضا, وهذا النغام الأخير يسمونه راحة النفس, او السلام الروحي, والتوصل إليه يكون بالوجد والحبور, والغناء والسماع. والحبور عندهم هو السماع. وبهذا المعني يفسرون قول الله تعالي: فهم في روضة يحبرون, أي يسمعون وإذن فالموسيقي عند الصوفية هاتف سماوي يحدو بالمرء إلي التوجه والسعي نحو الله. فمن أعارها سمعه وهو راغب في الله كان له ما أراد. ومن أعارها وهو راغب في الشهوات وقع في النهاية وارتطم في حمأة الشهوات. وليس من قبيل المبالغة تأكيده أن هذه الطرق الصوفية في الحقيقة هي التي خدمت هذا الفن الغنائي, وكانت عماد هذه الناحية الفنية حقبة طويلة من التاريخ, وكان لها كل الفضل في حفظ أصول الغناء العربي, ثم تنمية هذه الاصول بما أخذته من مقامات متناسبة متناسقة من فارس وتركيا والهند. ذلك أنها بعد أن سيطرت علي مشاعر المجتمع, وصارت قوة في الدولة لها سلطانها وسطوتها فتحت الباب علي مصراعيه لتقبل جميع ألوان الفن الغنائي والموسيقي وإدخالها ضمن شعائر التصوف, فلم يعد الفن الصوفي مقصورا علي إنشاد القوالين ووجود الحاضرين, ولكنه أصبح يستوعب كل فنون الطرب وألوانه, وبخاصة ما يثير الشجو من هذه الفنون والألوان التي تنسجم مع مشاعر الجماهير الشعبية, فقد أتاح رجال الطرق الصوفية في أول الأمر, بعد أن خلا لهم الطريق من اعتراضات الفقهاء وإنكارهم, إستخدام آلات الصفير في مجالس الإنشاد ومحافل الذكر, ثم جاءت الطريقة المولوية نسبة إلي جلال الدين الرومي فأباحت العزف بجميع الآلات الموسيقية علي اختلاف ألوانها في هذه المجالس والمحافل, وبهذا اكتملت الصورة الفنية للغناء والموسيقي في البيئة الصوفية, وأصبحت كل مجالات الطرب في محافلهم ومجالسهم. وكان أشهر الآلات التي استخدمها الصوفية في مواكبهم ومحافلهم, ومازلنا نراها إلي اليوم, الدف, والرق, والنقاقير والباز والسلامية والناي الذي عرف باسم ناي الدراويش, وهو يمتاز بصوته الحنون الذي يثير مكامن الشجون. ولم يكن هذا الدور الموسيقي الغنائي ليزدهر علي أيدي الطرق الصوفية إلا في ظل انتشار الموالد في مصر إبان الحكم الفاطمي, فهم الذين ابتدعوا إقامة الاحتفالات بالموالد الستة: المولد النبوي, مولد الإمام علي, مولد الحسن, مولد الحسين, مولد الزهراء, ثم مولد الخليفة الفاطمي. ثم انتشرت الموالد فشملت أقطاب الطرق الصوفية المنتشرة أضرحتهم في جميع أنحاء مصر من أقصاها إلي أقصاها. وكان رجال الطرق الصوفية هم الذين يقومون بإحياء هذه الموالد كما هو حادث الي اليوم. والجدير بالتنويه فيما يؤكد فهمي عبداللطيف أن جميع الطرق الصوفية تنتمي إلي آل البيت إلا النقشبندية, فإنهم وحدهم الذين ينتمون إلي أبي بكر الصديق. ويجدر بنا أيضا أن نستمع إليه إذ يقول: إننا نحس في الحركات الراقصة للذكر رنات الشعر العربي وأوزانه المعروفة من الخفيف والهزج والرمل مما يسميه علماء العروض بالتفاعيل والبحور, ويسميه أهل الموسيقي بالمقامات والأنغام, ولكن الذي لا شك فيه أيضا هو أن الصوفية قد زادوا كثيرا علي هذا الوضع, وتوسعوا في المقامات الفنية للذكر توسعا أرحب وأحفل بمداخله في الطرب ومواقعه من النفس. فالنوبة من الرقص عند العرب كانت ترتبط من أولها إلي آخرها بلحن واحد هو الخفيف أو الهزج أو الرمل, أما النوبة من الذكر فإنها تستوعب من بدايتها إلي نهايتها جميع مقامات الغناء المعروفة عند العرب, والتي أخذها الصوفية من غير العرب, وبذلك ينتقل الذاكرون والسامعون من لحن إلي لحن, مما يكون أدعي إلي شدة الطرب, وإظهار المواجد والوجدانات لأن كل نفس تجد اللحن الذي يشاكلها, والنغم الذي ترتاح إليه, فإن النفوس تختلف في تقبل الألحان والأنغام, كما تختلف الأذواق في تقبل الطعام بألوانه. المزيد من مقالات خيري شلبي