تحقيق الأمن في مصر أصبح مسألة أكثر تعقيدا, نظرا لعديد المتغيرات وعلي رأسها الكثافة السكانية, وتعدد مصادر تهديد الأمن, وتطور تكنولوجيا الجريمة وذكاء الأنماط الجديدة من المجرمين في هذا الإطار يمكن لنا القول إن الانفجار الديموغرافي وترهلاته ومتفجراته الاجتماعية والسياسية الظاهرة والمضمرة, تحتاج إلي سياسة أمنية لا تعتمد فقط علي تضخم الأجهزة الأمنية وكثافتها العددية. لأنها تبدو قوة طاووسية عجوزا في مكوناتها وأدائها الضعيف, لأن الأمن حالة نفسية تستقر في الإدراك والوعي شبه الجمعي, أن ثمة أمانا وأمنا, ودون ذلك لن يحقق الطاووس واستعراضاته أية رهبة أو ردع أو خوف لدي المخاطبين بأحكام القانون ولن يخيف سوي نفسه. الأجهزة الأمنية وموردها البشري غير المؤهل وضعيف التدريب والهيئة يؤدي إلي إفقادها الهيبة. من هنا نستطيع القول إن ميزانية وزارة الداخلية تحتاج إلي إيلائها عناية خاصة وزيادة مواردها, لأن زمن الأمن الرخيص انتهي. الاقتصاديات الأمنية مكلفة ماديا, وتحتاج إلي ميزانيات ضخمة تخصص لرفع مستويات الأجور والمكافآت والرعاية الاجتماعية والصحية, والتدريب وشراء منظومات التسليح الشرطي التي تطورت علي نحو كبير, والإنفاق علي عديد القوات الضخمة ولكن ذات النوعية والقدرة والمؤهلة علي مستويات رفيعة من التكوين والتدريب المستمر, للضباط وضباط الصف والجنود. وعلي نحو يتسم بالتوازن بين قطاعات الأمن من السياسي إلي الجنائي والاقتصادي والاجتماعي. أن إشباع الاحتياجات الأساسية والرعاية الاجتماعية للضباط والجنود أمر جوهري ومحوري. رجل الأمن من وزير الداخلية إلي الجندي, لابد أن يدرك وبعمق أنه أكبر من موظف, وإنما صاحب رسالة وطنية تتمثل في تحقيق وإشباع الأمن, وخلق الإطار الملائم لبيئة سياسية واقتصادية واجتماعية, تدفع البلاد إلي العمل الجاد ومن ثم التطور السياسي والاقتصادي.. إلخ. والمفهوم الرسالي للأمن في إطار دولة القانون, وسيادته علي الجميع حكاما ومحكومين ورجال أمن, يعني احترامهم للقانون وللمواطنين ولا يتجاوزونه في عملهم, وهو ما يساعد علي ديناميكية وفاعلية العمل الأمني, والأهم قدرته علي توليد مشروعية جماهيرية لحركة المؤسسات الأمنية وتطبيقاتها للقانون في حيدة ونزاهة. إن سياسية أمن الشرعية والمشروعية ودولة القانون هي تعبير سياسي عن مجموعة من التوازنات المعقدة في مجتمع متعدد ومركب, ويستعصي علي التبسيط والاختزال والشعارات الصاخبة. والسؤال المركزي كيف تتم إعادة صياغة سياسة أمنية جديدة وهيكلة الأجهزة الأمنية؟ ثمة عديد المبادرات الأهلية التي قدمت في هذا الإطار من بعض الجمعيات الطوعية أو الحقوقية, بعضها ينطوي علي عناصر مفيدة, ولكنها جزئية, وبعضها الآخر يتعامل مع سياسة الأمن وأجهزته وفق بعض الأنظمة والخبرات المقارنة علي المثال الفيدرالي الأمريكي, أو بعض النظم الأخري في شكل الدولة وطبيعة نظامها السياسي الديمقراطي والثقافة السياسية والأمنية في أطر ديمقراطية, ولكن هذه التجارب وجذورها التاريخية ارتبطت علي نحو وثيق بهذه النظم الاجتماعية والاقتصادية وخصوصياتها بل وتاريخ الجريمة وتطورها في هذه المجتمعات, ومن ثم نجاح بعض هذه الأنظمة الأمنية والشرطية أجهزة ولايات وأخري فيدرالية.. إلخ هي جزء من هذه التركيبة الجيو أمنية, والجيو إجرامية والجيو سياسية.. إلخ. من هنا استعارة بعض عناصر منظومات وهيكليات الأمن الأمريكية أو الفيدرالية أو الكونفيدرالية في عديد الدول الهند, وكندا, واندونيسيا.. إلخ أمر يحتاج إلي وقفة لعديد الاعتبارات الأخري التي تتصل بأوضاع الدولة والمجتمع المصري, نذكر بعضها تمثيلا لا حصرا فيما يلي: 1- أن ثقافة وتراث الدولة المركزية النهرية الخمس ألفية والسبع ألفية في نظر أنور عبدالملك يحتاج إلي التجديد لا الهدم في إطار ديمقراطي. خاصة في ظل تفكك بعض أطر وهياكل هذه الدولة, ولم تعد تمتلك رأسمال الهيبة والردع العام الذي كانت تحوزه كأحد أبرز أرصدتها, في ظل ثقافة الطغيان وسطوة المركز/ العاصمة علي الأقاليم, عبر أجهزة القمع والهيمنة الإيديولوجية الدينية والسياسية والتاريخية حول أسطورة أم الدنيا والحضارات ومدائح الشوفينية والتمركز حول الذات القومية ومحمولاتها التاريخية والحضارية والدينية بكل تناقضاتها في تاريخنا بكافة مراحله, وحتي هذه اللحظة في تطور عصرنا. 2- إن تفكيك الأمن وربطه بالمناطق والمحافظات لكسر هيمنة الأمن في بؤرته ومركز أعصابه وتفكيره وتخطيطه المركزي, يؤدي إلي نزعة تفكيكية ذات منزع مناطقي وعرقي النوبة وسيناء والواحات ومطروح.. إلخ وربما ديني لأن لا أحد يستطيع أن يضمن أواصر الوحدة الوطنية, في ظل وهن قواعدها وثقافتها, وانكسار قيم الاندماج والتكامل القومي, منذ نهاية اربعينيات القرن العشرين. 3- إن ظاهرة ضمور الدولة وضعف سلطاتها وأجهزتها ونخبتها أدت إلي فجوات إدراكية بينها وبين المجتمع كثيف السكان, وضعيف المورد البشري من حيث التعليم والثقافة والصحة والمهنية.. إلخ والذي يتسم بضعف التجانس واتساع الفجوات الاجتماعية الطبقية بين السراة عند قمة الهرم الاجتماعي, وبين كتل اجتماعية متوسطة ذات شرائح متعددة وفقيرة ومهمشة وبعضها يعيش خارج النظام الاجتماعي, أو تم لفظه. نحن إزاء حالة دولة وسلطاتها وأجهزتها تفتقر إلي الصدقية والهيبة القديمة, والأخطر القدرة علي أن تفرض منظوماتها القديمة المختلة إلا من خلال آليات قمع لم تعد تخيف أحدا, لاسيما في لحظات الغضب الاجتماعي والسياسي. من هنا النزعة إلي التفكيك ستتسارع في ظل السياسة والتفكير الأمني القمعي المسيطر, ناهيك عن أن تفكيك مركزية السياسة والمنظومة الأمنية, يؤدي إلي تسارع تفكيك بني الدولة المركزية وهو خطر لابد من مواجهته بالتجديد في الرؤي والسياسات والعمل الأمني. ما العمل؟ للحديث بقية. المزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح