هل يمكن استعادة الأمن كحالة نفسية واجتماعية في ظل عدم الاستقرار السياسي, والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية؟ هل يتحقق الأمن في ظل عدم اليقين, والغموض الذي يعتري غالب التصورات المضطربة واليائسة أو المتفائلة حول المستقبل؟ هل لا تزال الروئ والمعالجات الفنية للأمن صالحة للتعامل مع مشكلاته وقطاعاته, والأهم مع الملفات الكبري في ظل عمليات تغير سياسي لا تزال تدور في أطر التسلطية السياسية؟ وربما ما بعدها لاسيما إذا ما حدث بعض من التطور الديمقراطي البنيوي الذي يمس بعضا من أسس النظام الدستوري, وقواعد اللعبة السياسية السائدة! هل يمكن تحقيق الأمن دون دعم وتأييد قوي اجتماعية رئيسية تقتنع وتوافق علي سياسة جديدة للأمن في مصر في أثناء مرحلة الانتقال! ما هو الإطار السياسي الذي يحتوي مجموعة القيم والمصالح التي تدافع عنها السياسة الأمنية البديلة لوضعية الاضطراب في الروئ والتشخيص والمعالجات والأداءات المختلة؟ عديد من الأسئلة والإشكاليات التي تتكاثر وتتوالد من بين حالة الاضطراب الأمني, وعدم الاستقرار التي تنبثق من حالة سياسية تنطوي علي عدم اليقين النسبي, الذي يتجلي من بين الروئ الغائمة والصراعات الظاهرة والباطنة علي القوة بين الفاعلين السياسيين الإسلاميين والمجلس الأعلي للقوات المسلحة ومن ثم الغموض الذي يلقي بظلاله علي مسارات التغير السياسي, بما ينطوي عليه من سنارات أي سيناريوهات محتملة لهذا الصراع. كيف يمكن صياغة سياسة للأمن في ظل الغموض الذي يكتنف العمليات السياسية الانتقالية؟ عديد من الأسئلة السابقة هي محض تمثيل لغيرها كثير ومتنام, ويرتبط ببعض من الخوف الذي يشيع لدي بعضهم من مقولات سقوط هيبة الدولة, أو سقوط الدولة وغيرها من الأحكام الشائعة بين بعض وقائع العنف الاحتجاجي كقطع المواطنين للطرق, أو الهجوم علي بعض المقار الحكومية, أو قطع خطوط السكك الحديدية, وغيرها من الواقعات الخطيرة التي تحمل في سياقاتها احتجاجات وسخط علي انفجار المياه الجوفية, وانقطاع مياه الشرب, والكهرباء.. السؤال هنا كيف يمكن التعامل مع هذا النمط من احتجاجات السياسيين والإعلاميين والمواطنين, التي تشير إلي مخاوف محلقة علي الفضاء السياسي للبلاد, وتشيع القلق وبعض من الخوف واليأس لدي بعض المصريين من الأقباط, والطبقة الوسطي العليا والوسطي الوسطي المدنية خاصة في ظل اتساع وقائع البلطجة والعنف المرتبط بالجرائم المختلفة, وقطع الطرق.. إلخ. من ناحية أخري ثمة تزايد في الواقعات الحاملة لعنفها الجماهيري ومساسها بالقانون الجنائي في آن؟ يبدو أن الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلي بعض المقدمات التي تدخل في نطاق بداهات الأمن كمفهوم شامل نفسي واجتماعي واقتصادي وسياسي وديني.. إلخ-, في إطار دولة حديثة ومعاصرة. أحاول أن أطرح بعض هذه البداهات فيما يلي: 1- الأمن ليس محض عنف يستند إلي القانون ومحتكر بواسطة الدولة وأجهزتها المختصة. لابد أن يتدثر الأمن كعنف مادي ورمزي وناعم بالشرعية السياسية, ونقصد بذلك أمن يعتمد علي أسس الرضا العام للقوي الاجتماعية الأساسية في البلاد في لحظة تاريخية محددة. 2- يقصد بالرضا العام الجماهيري في مجال الأمن, أن تقتنع كتلة اجتماعية واسعة بالقيم السياسية ومجموعة المصالح القومية التي تسعي الأجهزة والمنظومات الأمنية إلي أشباعها وتحقيقها. من الملاحظ في عديد العقود الماضية أن الأجهزة الأمنية, وقادتها ووزراء الداخلية كانت تنتج وجوه العنف الأمني باسم الدولة بوصفه العنف المشروع, بينما غالب النخب وشرائح اجتماعية كانت ولا تزال تدرك أن عنف الدولة لا يعدو أن يكون عنف للدفاع عن النظام, والنخبة الحاكمة ومصالحها وتحالفها مع رجال الأعمال وبعض البيروقراطية العليا. من ثم تولد إدراك شبه جمعي أن الأمن مخصص ومختزل من أمن الدولة والأمة المصرية إلي أمن الرئيس وعائلته وبعض مراكز القوة حوله وبعض رجال الأعمال وذوي الحظوة والنفوذ. من هنا افتقر الفكر الأمني المصري إلي شرعية سياسية وقومية تضفي عليه المشروعية في ظل انكسار مفهوم دولة القانون لمصلحة قانون القوة والفساد علي نحو ما سبق أن أشرنا وكتبنا طيلة أكثر من عقدين. 3- الأمن كمفهوم ووظائف ومنظومات وآليات اعتمد علي مقولة تطبيق القانون بينما غالب المواطنين, كانوا يرون كل لحظة في حياتهم اليومية أن القانون غائب, أو يطبق علي نحو انتقائي, وأن أصحاب القوة والنفوذ هي التي تحرك القانون, أو تستبعده إذا ما تناقض مع مصالحها أيا كانت. من هنا بدي الأمن لدي عديد الفئات الاجتماعية, وكأنه بعيد عن القانون وقواعده وضوابطه. من ناحية أخري كان رجل الأمن يبدو وكأن إرادته ومشيئته هي القانون, أو هو الذي يحدد وفق هواه أو اختياراته ما هو القانون؟ 4- ساعد علي هذا الفهم الذي شاع ولا يزال وسط فئات اجتماعية مختلفة. أن سياسة التشريع كانت تجري في أطر أخري لا تعبر عن الإرادة العامة للأمة, وإنما مصالح اجتماعية واقتصادية وسياسية ضيقة, ولم نستطع في عديد التشريعات أن تكون تعبيرا عن توازنات اجتماعية أوسع نطاقا من تركيبة مصالح مجلسي الشعب والشوري. ناهيك عن أن تشكيلات كلا المجلسين لم تكن تعبيرا عن انتخابات حرة ونزيهة وشفافة, وإنما تعبيرا عن رغبات وأهواء السلطة السياسية الحاكمة ومن ثم وصمت غالبا بالتزوير. الجروح السياسية لشرعية البرلمان أثرت علي شرعية السياسة التشريعية ومصالحها وآلياتها ومن ثم أدت الفجوة بين التشريع والشرعية إلي ميلاد قوانين فاقدة الفاعلية والكفاءة والقدرة علي استيلاد احترام المخاطبين بقواعدها وأحكامها. من هنا أصبحت القوانين وكأنها ولدت منزوعة الفاعلية, ومصابة بالوهن والأخطر غابت المعرفة بها حتي شعار قرينة العلم بالقوانين. 5- الأمن كمفهوم وقطاعات وآليات ومسارح للتحرك يعتمد علي التكامل لا الانفصال بين الأجهزة المختصة علي اختلافها, ولا يؤدي إلي هيمنة جهاز علي آخر مهما تكن أهميته علي رأس أولويات القضايا والمشكلات والأزمات الأمنية. الأمن السياسي لا يعني استعلاء الجهاز المنوط به جمع المعلومات والعمل من أجل مواجهة مصادر تهديد الشرعية السياسية والصفوة المعبرة عنها بفرض وجود الشرعية أساسا-, وإنما يعتمد هذا الجهاز وغيره علي التعاون في تبادل المعلومات وفي الخطط, وفي الأعمال الوقائية التي تحترم القانون( العادل والمتوازن بين المصالح والذي يحمي الحريات الشخصية والعامة.. إلخ). ومن ثم ضرورة تخفيض الصراعات والمنافسات بين الأجهزة وقادتها لمصلحة التعاون والتنسيق والعمل كفريق به الحد الأدني من التجانس في الأفكار وفي الروئ الأمنية التي هي سياسية بامتياز. المزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح