كانت لغة الحوار فى حياة المصريين فى يوم من الأيام تمثل ظاهرة للترفع والنبل والرقى وكان من الصعب أن تسمع كلمة نابية أو لفظا خارجا أو شتائم بذيئة وكانت هناك ضوابط للحديث والحوار والكلام ولم يكن هذا الترفع فى اللغة مقصورا على فئة دون أخرى أو فى نطاق واقع اجتماعي أو ثقافى مختلف ولكن الترفع كان سمة عامة لكل المصريين رغم انتشار الأمية والظروف الاقتصادية وأحوال الناس.. أقول هذا ونحن نشاهد الآن لغة أخرى تدور فى الشوارع والبيوت ووسائل الاتصال والإعلام حتى إنها أفسدت الكثير من الناس الذين انحرفت بهم لغة الحوار ووصلت إلى مستويات هابطة لفظا وكلاما وتجاوزا.. إن هذه اللغة لم تعد مقصورة على الشارع، حيث لا ضوابط ولا التزام ولكنها انتقلت إلى الكثير من الشاشات التى لم تعد تفرق بين ما يقال وما لا يقال وأصبح من السهل أن تهبط على رأسك ورأس أسرتك سيول من الألفاظ البذيئة وأنت حائر لا تملك من أمرك شيئا فلا حق لك فى الرد أو التعقيب أو المساءلة.. من يرد أن يستعيد لغة الحوار بين المصريين فى أزمنة مضت فعليه أن يستعيد بعض الشواهد وما أكثرها لكى يكشف الفارق بين ما كنا عليه وما نعيشه الآن.. يكفى أن تشاهد لغة الأفلام فى السينما المصرية فى عهود سبقت، لتجد أن الفارق كبير جدا بين الرقى والإسفاف، أنت فى السينما المصرية كنت تستمتع بلغة الحوار بين النجوم، حيث الاستخدام الراقي للغة العربية الفصحى فى كثير من المشاهد والمواقف.. ولكننا الآن نعانى ظهور لغة أخرى سوقية لا تراعى فيها مبادئ أو أخلاق إن هذه الأفلام القديمة لم تكن فنا جميلا فقط ولكنها كانت دروسا فى الحوار والأخلاق.. وإذا انتقلت إلى لغة الغناء فأنت أمام كلمات مختارة ما بين الفصحى والعامية حتى إن العامية المصرية أصبحت لغة العالم العربي كله حوارا وكلاما ونطقا وفنا ومن خلال الأغنية صاغ الفن المصرى الوجدان العربى من خلال شعر الفصحى بصوت أم كلثوم والسنباطى وعبد الوهاب ونخبة من شعراء مصر الكبار.. هنا أيضا سوف تجد المسافة بعيدة جدا بين ما يسمع أبناؤنا الآن من الكلام الهابط والغناء الغث وفى كثير من الأحيان أتساءل: من الذى سمح بهذا الإسفاف وكيف تسرب إلى أسماع الناس واقتحم اذان أبنا›نا وأصبح يتردد فى كل بيت؟! وبعد أن كنا نقدم للعالم العربى غناء رائعا وجميلا أصبحنا نحاصر الملايين بهذا السيل من الكلام الهابط والغناء الردئ إن هذا أيضا كان على حساب لغة الحوار فى الشارع المصرى وحين فسدت السينما وفسد الغناء تسللت إلى حياتنا أشياء غريبة فى هجمة وحشية كانت على حساب تاريخ طويل من الفن الراقى والإبداع الجميل.. لم تقتصر هذه الظاهرة المرضية على الفيلم والغناء ولكن الكثير من الشاشات استخدمت لغة اقل ما توصف به إنها هابطة ورخيصة وقد طالت هذه اللغة أشخاصا وأوطانا وشعوبا وتحولت إلى أبواق ابعد ما تكون عن أخلاق مصر وترفع المصريين. والغريب فى الأمر أن هذه اللغة وصلت إلى بلاط صاحبة الجلالة التى استخدم البعض فيها لغة لا تليق حتى إننا أصبحنا نقرأ مقالات باللغة العامية بل إن هناك نشرات إخبارية تستخدم اللغة العامية. كل هذه الظواهر كانت جديدة علينا ولم تدخل يوما حياة المصريين بهذه الشراسة وهذا الهبوط.. لم يكن غريبا أيضا أن تتسلل لغة الحوار الهابط إلى قضايا مهمة ومؤثرة مثل قضية الخطاب الدينى وهو أقدس مقدساتنا، حيث رأينا وشاهدنا من يسىء إلى رموزنا الدينية والفكرية بل إن البعض فى زحمة الإسفاف تجرأ على ثوابت دينية كانت محل تقدير واحترام حتى لو اختلفنا عليها.. إن الخلاف فى جميع القضايا مهما كانت حساسيتها شىء وارد ولكن بأى لغة يكون الخلاف، كما أن للإقناع شروطه وللثوابت قدسيتها ولكننا بلا أى مبررات فتحنا الأبواب لعدد قليل من المغامرين والباحثين عن الشهرة حتى على أنقاض المقدسات لكى يمارسوا نوعا من العبث فى كل شىء دون رادع من ضمير أو حرص على قيم أو أخلاق.. لقد شاهدنا على الشاشات لغة هابطة بينما كانت الكلمات البذيئة أكثر شراسة من الأحذية التى يلقيها الضيوف على بعضهم البعض. والغريب أن هذه الشواهد حدثت دون حساب لأحد أو كلمة توقف هذا العبث.. كانت قضية إصلاح الخطاب الدينى من أكثر القضايا انفلاتا فى لغة الحوار فى مصر فى الأعوام الأخيرة، خاصة أنها انتهت نهاية مؤسفة ما بين المؤيدين والمعارضين وأساءت لرموز كثيرة رغم إننا كنا نستطيع أن نضع من الضوابط والالتزام ما يضع القضية فى مسارها الصحيح فكرا وحوارا ومصداقية وأمانة.. لقد افسد المغامرون علينا فرصة ذهبية أن نضع منهجا وأسلوبا وطريقا لخطة غايتها إصلاح الخطاب الدينى بما يحمى قدسية الدين وحرية الفكر.. لا نستطيع أن نتجاهل دور الأسرة، لأنها تركت لغة الحوار تتهاوى بين الأبناء وسمحت بتجاوزات كثيرة ما بين الأجيال الجديدة، ومع انتشار الظواهر الاستهلاكية فى الإسراف والإسفاف غاب دور الأسرة حتى وصل إلى دوائر العنف الأسرى ما بين الآباء والأبناء وشجع على ذلك لغة المخدرات وكانت هى الأب الشرعى لجرائم القتل بل لغة الحوار وامتهان دور الأسرة.. ولا يمكن لنا أن نتجاهل غياب دور المؤسسات التعليمية فى المدرسة والجامعة وما بين هذا الثلاثى الأسرة والمدرسة والجامعة انتشرت لغة الحوار الهابط فى كل شىء ابتداء بالأبناء فى الأسرة وانتهاء بحشود المشجعين فى كرة القدم وقد حملت قاموسا جديدا هابطا أساء لكل شىء فى حياتنا ابتداء بهتافات المدرجات وانتهاء بحوارات التواصل الاجتماعى.. لقد حرمتنا لغة الحوار الهابط من أشياء كثيرة كانت بيننا وعشنا عليها زمنا طويلا.. حرمتنا من الفن الجميل غناء وأفلاما ومسرحا وحوارا.. حرمتنا من دور تاريخي كانت فيه مصر رائدة فى كل الفنون على امتداد الساحة العربية وحرمتنا من أن تكون العامية المصرية الراقية هى لغة الشعوب العربية وحرمتنا من أن نختلف بموضوعية ونتحاور برقى وان نكون نموذجا فى الترفع وحرمتنا من أن نحافظ على دورنا ومسئوليتنا فى حماية اللغة العربية وكانت مصر دائما هى حصنها الحصين.. إن السؤال الذى يمكن أن نتوقف عنده وما هو الحل؟.. كيف نعيد للغة الحوار رقيها وجلالها وقيمتها فى حياتنا؟.. إن القضية لا تتوقف عند جانب واحد ولكنها تجمع أكثر من جانب وأكثر من دور ابتداء بالأسرة وانتهاء بما نشاهد من أفلام وما نسمع من الغناء حتى أن هناك أجيالا اعتادت على الغناء الردىء.. اولا: لا أرى أى تعارض بين الحرية والمسئولية، لأن الحرية المسئولة هى النموذج الأكمل وليس من الحكمة أن نسمح بظهور فيلم على الشاشة يحمل سيلا من البذاءات والشتائم أو أن نشاهد برنامجا يسىء لأخلاقنا ولغتنا وأسلوب حياتنا.. إن المجلس الأعلى للإعلام برئاسة الكاتب الكبير مكرم محمد احمد يخوض معركة شرسة مع حشود القبح ويصدر العشرات من القرارات والجزاءات والغرامات ولكن لا احد يساعده وهنا يأتى دور بقية مؤسسات الدولة النقابية والفنية، خاصة أن الكثير من الأعمال والحفلات الفنية تظهر فجأة دون أن يراها احد وهناك تجاوزات كثيرة كان ينبغى أن تمنعها النقابات الفنية فى السينما والغناء والحفلات والبذاءات سواء فى كلمات هابطة أو سلوكيات لا تليق.. هناك حالة غياب تام عن المحاسبة من حق أى إنسان فى مصر الآن أن يغنى ولو كان صوته قبيحا أو يمثل أو يقدم الحفلات حتى لو كان عاريا.. ثانيا: هناك تجاوزات على الشاشات تصل إلى حد الجرائم فى لغة الحوار وما حدث فى قضية إصلاح الخطاب الدينى اكبر دليل على ذلك حيث أساء البعض إلى رموز دينية وثوابت لا ينبغى أن تكون مجالا للمزايدات أو التجريح وهناك مواقف تسىء لنا كشعب فى استخدام لغة هابطة ضد اشخاص أو دول أو مؤسسات إن كل شىء يمكن أن يقال ولكن كيف وبأي لغة يمكن أن يقال.. ثالثا: إن جزءا من مسئولية الأمن أن يحقق الاستقرار فى الشارع وفى سلوكيات الناس ولكن لغة الحوار جزء من هذه المسئولية ويمكن أن تكون توجيها وليس إدانة أوعقابا، كما أن المدرسة يجب أن تحافظ على مستوى الحوار بين تلاميذها. لقد تحولت هتافات بعض الجماهير فى مباريات كرة القدم إلى طلقات من الرصاص أساءت إلى أشخاص وشعوب ودول ومثل هذه الظواهر المرضية يمكن أن تنتشر وتتحول إلى أمراض اخطر فى ظل حالات الانفلات والفوضى.. إن الأمن لا يعنى فقط حماية امن المواطن والاستقرار لا يعنى فقط مطاردة اللصوص ووقف الجرائم ولكن الأمن الحقيقي أن تحمى الإنسان من كل ما يهدد فكره وأمانه النفسى ويجعل منه إنسانا متوازنا مترفعا خلوقا.. إن الأخلاق جزء أصيل من امن الإنسان ولغة الحوار الهابط جريمة يومية تحدث أمامنا بلا حساب أو عقاب
ويبقى الشعر
نسيتُ ملامحَ وجهى القديمْ.. ومازلتُ اسألُ : هل من دليلْ ؟!! أحاولُ أن استعيدَ الزمان وأذكر وجهى... وسُمرة َجلدى... شُحوبى القليل... ظلالُ الدوائرِ ِفوق العيونْ وفى الرأسٍ يعبثُ بعضُ الجنونْ نسيتُ تقاطيعَ هذا الزمانْ نسيتُ ملامحَ وجهى القديمْ.. عيونى تجمَّدَ فيها البريقْ.. دَمى كان بحراً.. تعثر كالحلمِ بين العروقْ.. فأصبح بئراً.. دمى صار بئراً وأيامُ عمرى حطامٌ غريقْ.. فمى صار صمتًا.. كلامى مُعادْ وأصبح صوتى بقايا رمادْ فما عدتُ انطقُ شيئاً جديداً كتذكار صوت أتى من بعيدْ وليس به اىُّ معنى جديدْ فما عدتُ أسمع غيرَ الحكايا وأشباحُ خوف برأسى تدورْ وتصرخُ فى الناسِ هل من دليلْ ؟؟ نسيتُ ملامح وجهى القديم لأنَّ الزمانَ طيورٌ جوارحْ تموتُ العصافيرُ بين الجوانحْ زمانٌ يعيش بزيف ِالكلام وزيف ِالنقاءِ .. وزيف المدائحْ حطام ُالوجوه على كل شىء وبين القلوب تدورُ المذابحْ تعلمتُ فى الزيف ألا أبالى تعلمتُ فى الخوفِ ألا اسامحْ ومأساةُ عمرى.. وجه قديمْ نسيتُ ملامحَه من سنينْ أطوفُ مع الليلِ وسط الشوارعْ وأحملُ وحدى همومَ الحياهْ أخافُ فأجرى.. وأجرى أخافُ وألمحُ وجهى.. كأنى أراهْ وأصرخ ُفى الناسِ هل من دليلْ؟!! نسيتُ ملامحَ وجهى القديمْ وقالوا.. وقالوا رأيناكَ يوماً هنا قصيدةَ عشقٍ ٍهوتْ.. لم تَتمْ رأيناكَ حلماً بكهفٍ صغير وحولكَ تجرى .. بحارُ الالمْ وقالوا رأيناكَ خلف َالزمانِ دموعَ اغترابٍ .. وذكرى ندمْ وقالوا رأيناكَ بين الضحايا رُفاتَ نبىًّ مضى .. وابتسمْ وقالوا سمعناكَ بعد الحياةِ تُبشَّر فى الناسِ رغم العدَمْ وقالوا..وقالوا .. سمعتُ الكثيرْ فأين الحقيقةُ فيما يقالْ ؟ ويبقى السؤالْ.. نسيتُ ملامح وجهى القديمْ ومازلتُ أسألُ .. هل من دليلْ ؟!! مضيتُ أُسائل نفسى كثيراً تُرى أين وجهى .. ؟!! وأحضرتُ لوناً وفرشاةً رسم ٍ.. ولحنًا قديمْ وعدتُ أُدندنُ مثل الصغارْ تذكرتُ خَطًا تذكرتُ عينًا تذكرتُ أنفًا تذكرتُ فيه البريقَ الحزينْ وظلٌّ يدارى شحوبَ الجبينْ تجاعيدَ تزحفُ خلفَ السنينْ تذكرتُ وجهى كلَّ الملامح.. كلًّ الخطوطْ رسمتْ انحناءاتِ وجهى شُعيرات ِرأسى على كل بابْ رسمتُ الملامحَ فوق المآذِنِ.. فوق المفارقِ..بين الترابْ ولاحت عيونىَ وسط السحابْ وأصبح وجهى على كلَّ شىء رُسوماً..رُسومْ ومازلتُ أرسمُ .. أرسمُ .. أرسمْ ولكنَّ وجهى َما عاد وجهى.. وضاعت ملامحُ وجهى القديمْ.