فى مناسبات كثيرة أتوقف عند الغناء المصرى القديم خاصة الأغانى الوطنية وأتساءل لماذا لم تتكرر هذه التجارب الغنائية الفريدة التى عاشت فى وجدان المصريين .. أتساءل لماذا اختفت هذه الكلمات الرفيعة وهذا الإحساس الصادق وهذه الألحان العبقرية ..أتساءل أين المطربون والمطربات الذين تركوا قطيعة بينهم وبين هذا التراث الراقى .. لماذا لم نسمع أغنية تحرك الوجدان رغم كل الأحداث الضخمة التى مرت بها مصر فى السنوات الماضية؟! .. حين نراجع الأحداث الكبرى التى عاشها المصريون سوف نجد بلادى بلادى وقد تحولت إلى النشيد الوطنى وسوف نجد سلسلة أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب عن مصر وقف الخلق ومصر نادتنا فلبينا نداها وأغنيات أخرى للنيل أنا وحبيبى يا نيل نلنا أمانينا والنهر الخالد وأغنيات الثورة فى مرحلتها الأولى بالأحضان وصوره وكل هذه الإبداعات الرفيعة.. أنظر الآن للساحة وتمر الأحداث الكبرى دون أن تبقى فى وجدان المصريين كلمة أو لحن أو أداء جميل يذكرنا بهذه المناسبات العزيزة علينا.. إنها إنتاج معلب سريع لا جهد فيه ولا إحساس وحين تتدفق هذه الأغنيات على الشاشات مع صور مزعجة فى أحيان كثيرة فهى لا تترك أثرا أمام الصخب والضجيج وسطحية المشاعر وهشاشة الكلمات وعبثية الألحان لم تشهد الأحداث الكبرى فى مصر فى السنوات الماضية إبداعا يتناسب مع أهمية هذه الأحداث حتى تلك اللحظات التى خرجت فيها الجماهير لم يخرج منها إبداع يتناسب مع قدسية الدماء التى سالت والأرواح التى ضحت .. إن هناك أسباب كثيرة وراء ذلك كله .. أول هذه الأسباب هى المشاركات الفنية التى دفعتها مصالح ولم تكن بدافع وطنى صادق إنها صفقات سريعة يكتبها المؤلف فى لحظات ويلحنها الموسيقى فى دقائق ويقرؤها المطرب وهو يسجلها فى الأستوديو دون أن يحفظ كلماتها .. إنها إنتاج سريع تشبه الأشياء المعلبة وسندوتشات التيك اواى, ولهذا يبقى تأثيرها محدودا للغاية .. ولنا أن نتصور كلمات كان يكتبها شوقى أو حافظ إبراهيم أو محمود حسن إسماعيل ويلحنها السنباطى أو عبد الوهاب وينطلق بها صوت كوكب الشرق .. الآن لا يوجد فى الساحة من يجيد نطق اللغة العربية شعرا فصيحا وسليما وليس غناء ولا يوجد الملحن القادر على التعامل مع القصيدة الشعرية إلا بعض المطربين العرب بعد أن انسحب الغناء المصرى تماما من ساحة الشعر, بل إن من مطربينا من يذهب ليغنى بلهجات عربية أخرى غير العامية المصرية والسبب فى ذلك كله أن المال أصبح يشترى كل شىء.. مرت علينا أحداث تمنيت فيها لو سمعنا أغنية تعيد لنا عبق الغناء القديم بكل ما فيه من جوانب الإبداع لحنا وكلاما وأداء ولكن كيف يحدث هذا ونحن كل يوم نتلقى فى مسامعنا هذا السيل من الكلام الهابط والألحان الساذجة التى تنطلق فى وسائل الإعلام وكأنها مؤامرة مقصودة على الذوق والوجدان المصرى .. من أسباب غياب الأغنية الوطنية أيضا أنها لا تجد حماسا لإنتاجها من الفضائيات المصرية الخاصة أو الحكومية لقد توقف التليفزيون المصرى منذ سنوات عن إنتاج مثل هذه الأعمال بدعوى أنها لا تحظى باهتمام المصريين وهذا ما تفعله الإذاعة المصرية الآن فقد توقفت عن إنتاج كل أنواع الغناء.. وللأسف الشديد أن الفضائيات الخاصة تدفع الملايين لإنتاج مسلسل هابط وترفض أن تدفع قروشا لإنتاج أغنية وطنية تطهر وجدان الناس وترفع أذواقهم. أمام هذا الإهمال المتعمد حدثت فجوة كبيرة بين المتلقى وهذا النوع من الغناء الراقى الذى يهز المشاعر ويحيى القلوب.. ظهرت نوبات غنائية فى صورة كلام هابط بل جارح أحيانا وظهرت فرق الشوارع التى تلحن أى شىء وتقول أى شئ وحاصرتنا أصوات قبيحة لا تصلح للكلام وليس للغناء واستقبل الجمهور المصرى هذه العاهات الغنائية بالقبول والترحاب وأحاطت بها سلسلة من رءوس الأموال تنتج وتوزع وظهرت دولة التكاتك والميكروباصات التى تولت نقل المواطنين وتشويه أسماعهم فى نفس الوقت .. هنا ظهرت فى مصر أجيال لا تعرف لغتها العربية غناء أو قراءة وهذه قضية تناولتها أكثر من مرة ولن اسكت عليها وبعد أن غنى المصريون الأطلال انتشرت فرق الشوارع فى الأفراح والمناسبات بل إنها تسللت إلى شاشات التليفزيون الخاص والعام وأصبحت تمثل زادا يوميا من الانهيار الذى أصاب الذوق المصرى فى السنوات الأخيرة. لا أنكر أن لدينا أصواتا جميلة قادرة على تقديم الغناء الجميل ولكن من أين لها هذا وقد تخلت عنها شركات الإنتاج كما تهاوت تجارة الكاسيت وأصبح الغناء كل الغناء سلعة رائجة فى كل مواقع النت والفيس بوك وكل ملحقات وسائل التواصل الاجتماعى .. هناك هجمة شرسة من العامية الهابطة وأنا أقدر العامية الجميلة المترفعة أما هذا المسخ فلا يقبله أحد.. لا نستطيع أيضا أن ننكر أننا فى يوم من الأيام كنا نقدم للعالم العربى العامية المصرية فى أرقى صورها إحساسا وكلاما من خلال شعراء كبار مثل رامى ومرسى جميل وحسين السيد وعبد الوهاب محمد ومأمون الشناوى والأبنودى ولكن المطربين عندنا الآن يتسابقون لغناء لهجات أخرى أمام دوافع مادية وقد كان ذلك سببا فى تراجع سوق الغناء فى مصر وهى التى كانت دائما تقدم الأجمل والأحلى والأرفع كما أن الظاهرة الأخطر أن الإعلام المصرى لم يعد يقدم تراث مصر الغنائى لأننا نسمع أم كلثوم من الفضائيات العربية أما الفضاء المصرى فيكفيه ما يقدم من أصوات النشاز.. مازالت لدينا أصوات لديها قدرات فريدة وتستطيع أن تقدم للوطن أغنيات تعيش فى وجداننا لا أستطيع أن أتجاهل أسماء مثل هانى شاكر ومحمد منير وعلى الحجار ومدحت صالح ومحمد فؤاد وأنغام وأمال ماهر وشيرين وعمرو دياب وغادة رجب وعزة بلبع وهنا تقع المسئولية على مؤسسات الدولة فى إنتاج هذه النوعيات الفريدة والمميزة من الغناء الوطنى الجميل بحيث تضع لها خطة تواكب الأحداث الكبرى التى تعيشها مصر والإنجازات التى تحققها يدخل فى ذلك إنتاج إذاعى يعيد للإذاعة دورها القديم فى إنتاج هذه الأعمال وأن يشارك التليفزيون بالتعاون مع الإذاعة فى تقديم هذه الأعمال فى إخراج تليفزيونى يقربها إلى الناس وهنا يمكن أن نتذكر الأعمال الجماعية التى جمعت المطربين المصريين والعرب فى ألحان موسيقارنا الراحل محمد عبدالوهاب مثل وطنى حبيبى وقد بقى نموذجا رائعا للأغنية الوطنية ذات البعد القومى.. يبقى دور الفضائيات المصرية التى تدفع الملايين كما قلت للمسلسلات وهى قادرة على أن تقدم أغنية وطنية رفيعة فى مناسبة كبرى.. ماذا قدم الغناء المصرى لشباب الشهداء وضحايا الإرهاب وماذا قدم عن ثورات مصر فى يناير ويونيو وعن الإنجازات الضخمة التى حدثت فى السنوات الماضية, إننى أتعجب أحيانا أن أشاهد أغنية وطنية وهى فى الحقيقة إعلان عن الأسمنت أو الحديد.. تداخل غريب فى أشياء ينبغى أن تتسم بالوعى والحكمة والذوق الرفيع أن أغنى لوطن غير أن أغنى للحديد حتى لو كان إنجازا كبيرا.. إن القضية يجب أن تؤخذ بجدية لأن أذواق الشعوب ومشاعرها وإحساسها بالانتماء تمثل جوهر العلاقة بين الإنسان ووطنه هذا الانتماء يتشكل من أغنية أو لوحة أو قصيدة أو مسلسل جميل, إن بناء منظومة الانتماء له قواعد وأسس وثوابت وهو ليس عملية ارتجالية تأتى من فراغ .. انه حلم يعيشه مواطن ووطن يحتضن أحلام أبنائه وفن يصنع القيم وفى مقدمتها شئ يسمى الانتماء .. إننا نتحدث كثيرا عن المواطنة رغم أن كل الطرق إليها مشوهة بالغناء الهابط والقيم الضائعة والثوابت التى تتحطم أمامنا كل يوم .. إن أول دروس المواطنة تتجسد فى أغنية يسمعها الطفل وتشكل وجدانه ونشيد للصباح وتحية للعلم وأب يمثل القدوة ومدرس يعلم بضمير وشارع يحترم آدمية البشر .. إن البعض قد يتصور أن الغناء قضية بسيطة وسهلة وأنها مجرد كلمات تكتب على المقاهى وتلحن فى الأسواق وتسجل فى مطاعم التيك أواى إن مثل هذه الأعمال لا تبقى والدليل أمامنا لقد تدفقت على الشارع المصرى آلاف الأغنيات ولم يبق منها شئ وبقى المصريون بعد عشرات السنين يغنون «أنا إن قدر الإله مماتى لن ترى الشرق يرفع الرأس بعدى».. «أخى جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا».. هذا الإبداع هو الذى بقى فى وجدان المصريين أما مخلفات الفن الهابط فلم يبق منها شىء.. ولن يبقي.. أعود من حيث بدأت نريد غناء يعيد للأجيال الجديدة انتماءها وحبها لهذا الوطن وهو جدير بهذا الحب ولن يكون ذلك أبدا بما يقدم الآن من فن هابط وكلام ردئ .. إذا كان من مسئوليات الدولة أن تحمى الأوطان حدوداً وأمناً واستقراراً فإن من أهم واجباتها أن تحمى وجدان شعبها من كل مظاهر الدمار والتخريب ولاشك أن الفن المصرى تعرض لعمليات دمار شامل فى السنوات الماضية والمطلوب أن تتدخل الدولة لحماية أذواق المصريين كما تحمى تراب مصر..
..ويبقى الشعر
جَلسنا نرسمُ الأحلامَ في زمنٍ .. بلا ألوانْ رسمنَا فوقَ وجْهِ الريحِ عُصفورين في عشٍ بلا جُدرانْ أطل العش بين خمائل الصَّفصافِ لؤلؤةً بلا شطآنْ نَسينَا الاسمَ ..والميلادَ..والعنوانْ ومَزقنا دفاترنَا وَألقينا هُموم الأمسِ فوقَ شواطئ النِسيانْ وقلنا : لن يَجئ الحزنُ بعد الآنْ رأينا الفْرح بين عُيوننا يحبُو كطفلٍ..ضمَّه أبوانْ رسمنا الحبَّ فوق شفاهنا الظمْأى بلون الشَّوق..والحرمانْ رسمتُك نجمةَ في الأفقِ .. تكبرُ كلمَا ابتعدتْ فألقاهَا..بكل مكانْ رَسمتكِ في عُيونِ الشمْس أشجاراً متوجة بنهرِ حنانْ رسَمتك واحةَ للعشقِ أسُكنها .. وتسْكنني ويَهدأ عندهَا قلبانْ *** جلسنا نرسمُ الأحلامَ في زمنٍ .. بلا ألوانْ وعدنا نذكرُ الماضي .. وما قد كانْ ووحشُ الليلِ يرصُدنَا ويهدرُ خلفنَا الطوفانْ شربنَا الحزنَ أكوابًا ملوثةً بدم القهرِ .. والبُهتانْ وعِشنَا الموتَ مراتٍ .. بلا قبرٍ .. ولاَ أكفانْ وجُوهُ الناس تُشبهُنا مَلامحُهمْ مَلامحنَا ولكنْ وجهنَا .. وجهانْ فوَجهُ ضاع في وطنٍ طغتْ في أرضهِ الجرذانْ ووجهُ ظل مسجونًا بداخلنَا .. بلا قُضبانْ *** جلسْنَا نرسمُ الأحلامَ في زمنٍ .. بلا ألوانْ نَسِينا في براءتِنا بلادًا تعبدُ الأصْنامَ تسْجدُ في رحَاب الظلْمِ .. ترتعُ في حِمَى الشيطانْ نسينا فِي برَاءَتِنا وُجوهًا علمتْنا القتْلَ مُذُ كنَّا صغاراً نُطعمُ الِقططَ الصَّغيرةَ فِي البيُوتِ .. ونعْشقُ الكَروانْ نسينَا في براَءتِنا وُجوهًا طاردتْ بالمْوتِ .. أسْرابَ النوارسِ .. حطمتْ بالصمَّت أوتارَ الكمانْ نسِينَا في براءتِنا بلاداً تزرعُ الصَّبارَ في لَبن الصّغار .. وتُطعمُ العُصفورَ .. للغرِبانْ *** جَلسنَا نرسمُ الأحلامَ في زَمن .. بلا ألوانْ توحَّدنَا .. فلم نعرفْ لنا وطنًا من الأوطانْ تَناثرنَا .. فَصِرنَا في رُبوعٍ الأرضِ أغنيةً لكِل لسانْ أحُّبكِ .. قلتُها للفجرِ حينَ أطل في وجهِي وَعَانقنيِ وحَطمَ حَولِي الجُدرانْ أحُبكِ .. قلتها للبحرِ .. والأمواجِ تحملنِي لشطّ أمانْ أحبكِ .. قُلتها لليلِ .. واللحظاتُ تَسرقُنَا فنرجُو العُمرَ لو أنا مَعًا طفلانْ رَميْنا فوقَ ظَهر الريحِ .. أشلاءً مبعثرةً منَ التيجانْ وقلْنا نشتري زمنًا بلا زيفٍ بلا كذبٍ .. بلا أحزانْ وقلنا نشترِي وطنًا بلا قَهرٍ .. بلا دَجلٍ .. بلا سَجانْ *** جلسْنا نرسُم الأحلامَ فِي زمن ٍ.. بلا ألوانْ تَوارَى كلُّ ما رسمتْ علَى وجْهى يدُ الطغيانْ لتبْقى .. صُورةُ الإنْسانْ !!
قصيدة رسوم فوق وجه الريح سنة 1996 [email protected] لمزيد من مقالات يكتبها فاروق جويدة