يوما ما فى المستقبل القريب، أو البعيد سيكتب التاريخ عن أيامنا هذه أننا كنا غارقين فى بحور من الكلام، كلام فى غالبه يَكْلِمُ أى يجرح ويُحزن، سيذكر التاريخ أن النخب الثقافية العربية, فيما بعد فوران الانتفاضات الشعبية فى العشرية الثانية من القرن الحادى والعشرين, كانت تسيطر عليها شهوة الكلام. تقرأ صحيفة، أو تجلس أمام التلفاز، تشاهد الحوارات, تجد كلاماً فوقه كلام تحته كلام، عالم كامل من الحروف، والكلمات الفارغة الجوفاء، لا حقائق واقعية لها، ولا هدف من قولها، إلا أن تملأ فراغ الفضائيات، وتسوِّد بياض الصفحات بحروف ما فيها من حبر أكثر قيمة مما تحمله من أفكار ومعان. تحاول أن تخرج بفكرة، أو رؤية، أو طاقة أمل، أو نور معرفة، أو قيمة إنسانية تضيء طريق القادم من أيامك، لن تجد إلا ظلاما دامساً، (سبابٌ ولعناتٌ، وتشكيكٌ، وتشاؤمٌ)، لقد ادمنت نخبة البوم والغربان الحديث عن السلبيات، ومواطن الفشل، وتضخيم الازمات، ونشر الفضائح، والرذائل فى المجتمع. بل إن هناك منظومة متكاملة من القنوات الفضائية، والمواقع الإخبارية, تقف وراءها دولة غنية, تسخر مواردها، وتجيش كل إمكانات، وعلاقات هذه الدولة من أجل نشر ثقافة البوم والغربان، ما تفعله قطر ومعها تركيا، وفى خدمتها شذاذ الآفاق من انتهازيي تنظيم الإخوان الفاشل، والمؤلفة جيوبهم من بقايا اليسار والليبراليين, فى جوهره هو نشر ثقافة البوم والغربان، وتضخيم الفشل، ودفع الشعوب الى اليأس، والانفجار والتدمير، كل ذلك من خلال تعظيم شهوة الكلام عند الجميع، وتحويل البسطاء الى متكلمين فى القضايا التى لا تستطيع عقولهم استيعابها أصلاً، ولكنها شهوة الكلام التى ظهر للجميع أنها أشد الشهوات شراسة وقوة، وأعظمها تحكماً فى الإنسان. أمام شهوة الكلام تراجع العقل، وانزوى المنطق، وفقدت كل العلوم مضامينها، لأن المدمنين على شهوة الكلام يعتقدون أن الواقع كله كلام، وأن العالم عبارة عن كلام، وأن الحقائق فى الكون يصنعها الكلام، ويغيرها الكلام، واليك مثال تنظيم الإخوان الفاشل، وخلفه تركياوقطر، جميعهم يعتقدون اعتقاداً جازماً بأنهم يصنعون عالما من الكلام، يتهجمون على الدولة المصرية بكلام فارغٍ من المعاني، مليءٍ بالفراغ، خال من القيم، ويظنون أن هذا الكلام يستطيع أن يغير حقائق الواقع، ويصنع لهم واقعا على مقاسهم، فالمرحوم محمد مرسى الذى حكم سنة واحدة, كان أنجح رئيس، وكان... وكان... وكان, وكأن التاريخ لا وجود له، والواقع عبارة عن سراب أو خيال، لذلك هم يصنعون واقعاً على مقاسهم بالكلام. شهوة الكلام أكثر خطورة من جميع الشهوات الدنيئة فى الإنسان، لأنها شهوة مدمرة، ينتقل ضررها من القائل الى السامع أو القارئ، وهم كثر، لذلك كل القتل والتدمير الذى يحدث فى الدول العربية فى عصرنا هذا كان ناتجا عن كلام فى صورة خطب عصماء لسياسيين انتهازيين، أو لرجال دين من عدماء الدين، وتجار الدين. الكلمة قد تبنى وقد تهدم، وترفع صاحبها الى مقام المصلحين، وتهوى به مع القتلة والمخربين. كنتُ ولم أزل أتأمل لماذا كانت إجابة الله سبحانه وتعالى لسيدنا زكريا بالامتناع عن الكلام, عندما سأله عليه الصلاة والسلام أن يجعل له آية مثل آيات باقى الأنبياء، فقال الله سبحانه وتعالى له كما جاء فى القرآن الكريم: قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، (آل عمران- 41)، كيف يكون الصمت آية وعبادة يأمر الله سبحانه بها نبيا من أنبيائه؟. الصمت رياضة، وعبادة، وحكمة، ما أحوج مجتمعاتنا اليها، نحن فى حاجة الى الصمت فى هذا الضجيج الفظيع الذى أذهب العقول، ولوث القلوب، وحول طبقة من البشر؛ هى الأكثر تعلماً تغرق فى ثرثرة فارغة تصم الآذان، ولا تنير العقول، قديما وصف الإغريق الحكماء هذا الصنف من المثقفين بالوفسطائيين، أولئك المتلاعبون بالكلام الخالى من المعاني، عديم المنطق؛ لملء العقول بالأوهام والأكاذيب، والعبث بالمجتمع بأن ينقلب الحق باطلا، والباطل حقاً، فتضيع الحقائق، وتفسد المجتمعات. شهوة الكلام فى مجتمعاتنا تقودها الى التفكيك والخراب، فحقيقة الظواهر المدمرة التى تعصف بالمجتمعات العربية هى فى جوهرها كلام، ظاهرة الحوثيين فى اليمن كلام من شخص تم تدريبه فى إيران ولبنان ليكون نسخة بالكربون من سيد الكلام السيد حسن نصرالله, الذى صنع أكبر قوة فى الدولة اللبنانية بالكلام، وكل ظاهرة الإخوان كلام، لم يظهر منهم حقائق فى تاريخهم إلا فى السنة الوحيدة التى حكم فيها محمد مرسي، وكانت كارثة على الإخوان، وعلى كل من كان يؤمن أن فى الإسلام طرحا سياسيا قادرا على تحقيق الخير للناس، ومأساة إيران كلام خرافى يلبس مسوح الدين، امتلأت به العقول فخربت المجتمعات. علاج شهوة الكلام أن نقتدى بسيدنا زكريا عليه السلام، أن نصوم عن الكلام، ولو لثلاثة أيام، حينها سيخف الضجيج، وتتراجع الأمراض النفسية، وتتحسن حياة الناس، وتنجو مجتمعاتنا من طريق الخراب الذى تقودها اليه نخبة الكلام. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف