تخيل نفسك مخيرا بين أن تموت فى كارثة محققة غرقا مسموما بالغازات أو تبقى على قيد الحياة، مفضلا ترديد المثل الدارج «يا روح ما بعدك روح».. تصور مثلا فى هذه اللحظة الطوفانية المزلزلة كم سيكون البقاء حيا هو هدفك الأسمى على ما دونه مهما كانت الأسباب والحجج، لكن عبد الرحمن فهمى كامل «51 سنة» العامل البسيط الذى قذفته الدنيا ليعمل فى أشغال كثيرة متنقلا من قريته سنتريس مركز أشمون بالمنوفية إلى قرية صدقا مركز تمى الأمديد بمحافظة الدقهلية. عبد الرحمن مثل المكافحين فى خضم الحياة من أجل لقمة شريفة يبذلون فيها العرق الطاهر ويقطعون فيها المسافات. حيث أرض الله الواسعة، حاول أن يفعل شيئا مختلفا يساعده على مواجهة الأعباء المتزايدة لأسرة مكونة من 6 أفراد بينهم الصغير والكبير ومن يحتاج إلى التعليم والزواج والمسكن، جرب قبل ذلك السفر إلى الخارج فلم ينل سوى الحسرة، فكر فى أن يتجاوز صفة عامل زراعى إلى مقاول صغير «رئيس أنفار» يجرب حظه فى أعمال الحفر وأشغال الباطن مع شركات المقاولات الخاصة، ليوفر فرصة عمل لبعض أبنائه وأقاربه الذين يلهثون وراء أى عمل متاح. ترك عبد الرحمن أسرته ومعه نجله محمود «27 سنة» وابن شقيقه مجدى صلاح «25 سنة» لتنفيذ مقاولة بسيطة فى تسليك مواسير الصرف الصحى والبيارات قبل تسليم المشروع إلى هيئة مياه الشرب والصرف الصحى وعلى مدى شهر رمضان، كان أهالى قرية صدقا يتابعون عبد الرحمن وعماله فى وقت الظهيرة وهم يتصببون عرقا لاستكماله بسرعة تصحبهم الدعوات بالتوفيق، حتى جاء اليوم الموعود واللحظة الفارقة بعد أن ارتفعت مياه الصرف الصحى داخل بيارة بالقرية، فطلب الأب من ابنه النزول من أجل تسليك البيارة وتسيير المياه بها، وحال نزوله على سلم خشبى متهالك انكسر وسقط داخل البيارة فى لمح البصر، ثوان قليلة جدا فصلت بين ذهول الأب الذى يرى ابنه يغرق أمام عينيه وبين إلقائه نفسه وسط مياه الصرف لإنقاذ ولده وهو ينادى عليه لكن الغازات المنبعثة من الصرف الصحى كانت كفيلة بأن تسكت صوت الابن والأب معا مع تدفق المياه، فى اللحظة ذاتها كان مجدى نجل شقيقه يتابع المشهد بصدمة وحسرة، وحاول هو الآخر إنقاذ عمه وابن عمه ظنا منه أن الأمر سهل وبسيط فلحق بهما شهيدا للقمة العيش، بينما أنقذ الأهالى عاملا رابعا رمى بنفسه فى البيارة العميقة التى كانت تبلع كل شىء وتم إسعافه بعد إصابته بكدمات فى فروة الرأس وحالته مستقرة إلى مستشفى تمى الأمديد. وقد تم إخطار اللواء جمال عبد البارى مساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن بالحادث. وكان اللواء محمد حجى مدير أمن الدقهلية، تلقى إخطارا من اللواء محمد شرباش مدير المباحث الجنائية بالحادث بورود بلاغ لمأمور مركز شرطة تمى الأمديد، حيث انتقل ضباط المباحث وسيارات الإسعاف وقوات الإنقاذ النهرى إلى مكان الحادث وتبين من التحقيقات سقوط العمال داخل بيارة صرف صحى، فى أثناء العمل مع أحد المقاولين العاملين بمشروع الصرف الصحى، وتم استدعاء المهندس المسئول عن المشروع للتحقيقات بمعرفة النيابة التى أمرت بتشريح الجثث والتصريح بالدفن. ورافق جثامين الضحايا اللواء خالد محجوب رئيس مركز ومدينة تمى الأمديد الذى حرص على حضور الجنازة وتقديم واجب العزاء للأسرة بقرية سنتريس التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية، فيما تحرك جثمان العامل الثالث نجل شقيق الأب للقنطرة شرق الإسماعيلية حيث مقر إقامته.