مرارا وتكرارا دق المفكر الشجاع الدكتور الطيب تيزينى جدار الخزان، فلم ينصت أحد إلى تحذيراته، رأى وطنه (سوريا) يُدمَّر أمام عينيه, قطعة تلو الأخرى؛ يتذاوب مواطنوه كتلة وراء كتلة، قتلا ونزوحا ولجوءا؛ طيلة ثمانية أعوام لم تتوقف وليمة الموت فى سوريا، حتى طوته هو، ليرحل عن دنيانا الشهر الماضى عن 85 عاما. ولأن المثقف فى بلاد العرب يحيا فى جحيم لا ينطفئ، بين ديكتاتورية السلطة وعمالة المعارضة وغوغائية العامة، لايرضى عنه أحد، لما رحل تيزينى شيعته خراف المتأسلمين الضالة باللعنات، اعتبروه ملحدا وهو المثقف البصير، أما النظام فلم يكترث كثيرا بوفاته، وهو المفكر القومى، لأنه رفض نظرية المؤامرة، تفسيرا لما يجرى بالشام، مرددا مقولته الأثيرة: لولا ضعف الداخل، لما أمكن للخارج أن يجد أرضا ومدخلا للعبث، لم يكتف تيزينى بالتحذير من العواقب، بل قدم حلولا للأزمة، نادى بالطريق الثالث، فلا صدام مع السلطة ولا استكانة، طريق تحت سقف التصادم وفوق سقف التسليم، وهو ما يمكن اعتباره عنوانا لمشروعه الفكرى إجمالا. كان تيزينى الذى رمته جماعات الإسلام السياسى بالإلحاد- من بين فلاسفة التنوير الذين أعلوا من شأن العقل، اتخذ من التراث العربي-الإسلامي، موضوعَ بحث نقدي، وليس ذاكرة سلطوية أو كنزا مقدسا، قارب التراث من زاوية صراعات التاريخ، لا عبر أسرار الغيب، وبينما أقام الخطاب السلفى التراث مرجعا وحيدا للحقيقة، هَدمه التغريبيون وشوّهوا طبيعته، أما الطيب صاحب «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي» فدشن قطيعة معرفية مع القراءة السلفية الممجدة للتراث، والقراءات الاستشراقية والتغريبية الهادمة له، اجتهد فى استشفاف العلاقات بين أنساق الدين والفلسفة، على قاعدة أن التراث ليس ملكا لرجال الدين، ينتجون منه ما يحتاج إليه الإكليروس، بل هو فى العمق حاجة مجتمعية وأبستمولوجية تعنى كل مثقف، ويجب احترام اجتهاده، مهما عاند فهم الكهنوت، معولا على الإسلام المتسامح والتنويري، بديلا عن الإسلام المغرق بالفتاوى السلفية. وعلل إخفاق فكرة الحداثة عربيا، بأنها وضعت فى مواجهة الإرث العربى-الإسلامى، وسقط نتاجها الثقافى بين أسرين: أسر التراث وأسر الحداثة، بينما عجزت الطبقة الوسطى (المنتجة للحداثة) عن أمرين: التوافق الفكرى النسبى مع الطبقة العليا، والتأثير الفكرى والسياسى على الطبقة الدنيا، دون أن يهمل سؤال العولمة الذى طوى سؤال النهضة، لمصلحة جموح الجغرافيات الأخرى. وكان آخر ما كتبه تيزينى مقالا عن مذبحة المسجدين بنيوزيلندا، مبينا خطورة مثل هذه الجرائم على التعايش بين أتباع الأديان، وأشار إلى أن ظاهرة داعش هى المؤشر الأبرز على اضطراب الأوضاع فى الشرق الأوسط، وبالمثل فإن صعود اليمين المتطرف العنصرى فى الغرب يعكس تنامى الظاهرة على الشاطئ الآخر، مشددا على أهمية مواصلة العلاقات الودية وروح التآخى بين المسلمين والمسيحيين، إذ أن وحدة الأديان هى التى تسود بين إخوة الدين، كما تسود الأخوة الإنسانية بين بنى البشر، وفقا للمقولة الخالدة: الدين لله والأوطان للجميع. غادر الطيب محطة التراث، ليتوقف عند آفة الاستبداد السياسي، بوصفه أس التخلف والانحطاط فى المجتمعات العربية، قال إنه حين يُدمّر الداخل تكثر الغربان وتصبح البلاد قابلة للاستباحة، وخلص إلى أن للاستبداد أربعة أشكال: الاستئثار بالسلطة، والثروة، وحق التفكير، وحق التعبير واحتكار الإعلام.وككل السوريين، نظر تيزينى إلى مصر وحضارتها بما يليق بها، كان يردد إن مصر سيدة التاريخ، حضارتها الأقدم فى التاريخ الإنسانى والأكثر لفتا للاهتمام والنظر، موقعها نقطة التلاقى بين العالم الآسيوى والمتوسطى والعالم الإفريقي، وقال إن مصر فتحت أبوابها أمام الرواد وبعض الدخلاء، لكنها لم تقبل أبدا بالتدخلات الخارجية، درأ الطيب شبهات الاستبداد والظلم عن المجتمع المصرى القديم، فالدولة كانت تدار بكفاءة، مع مراعاة الحقوق والواجبات، دون شكوى أو تذمر، الصدق والعدالة سمتان أخلاقيتان للآلهة المصرية القديمة، ومن ثم لم يكن حكم الفراعنة طغيانا أو خدمته عبودية. رحل الطيب تيزينى لتخسر سوريا، والعالم العربى قامة سامقة، وسواء اختلفنا معه أو اتفقنا، فإنه يظل مفكرا فذا صدح بالحق وانحاز للناس، دون طمع فى ذهب المعز أو خوف من سيفه، دافع عن مخالفيه فى الرأى وسفح الدمع ذودا عن المقموعين والمحرومين، لإعادتهم إلى حياض الوجود التاريخي، بعد أن جردوا من جغرافيا الوطن، وأكد أن شروط عملية التغيير العظمى تنطلق من استراتيجية الحفاظ على سوريا، والتشبث بالوعى الوجودى. وبالتأكيد أن وقوع سوريا على الأرض، بين مخالب قوى سورية وإقليمية ودولية لن يدوم، لكن دموع الفيلسوف تشير إلى فداحة الخسارة التى حصلت ومازالت!. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن