أحدث نفسى هذه الأيام عن الشعر وأقول إن الأوان قد آن لنعود إلى الشعر وليعود الشعر إلينا بعد هذه الغيبة الطويلة التى دامت سنوات وسنوات. فنحن فى أشد الحاجة لهذا الفن، لأننا فى أشد الحاجة إلى الحرية والإبداع. لقد ابتعدنا عن الشعر وعن الأدب عامة طوال الأعوام الماضية التى شدتنا فيها قضايا الساعة الملحة.. ثورات الربيع العربى وما جرى فيها وما آلت إليه، وجماعات الإسلام السياسى، والمنظمات الإرهابية التى تهدد المنطقة وتهدد العالم كله، والمحاولات الدائمة لإثارة الفتنة الطائفية.. هذا المناخ العنيف وهذه الأخطار المتفجرة باعدت بيننا وبين الشعر والثقافة بشكل عام، وفرضت نفسها على الأقلام والمنابر، فالحديث عن السياسة، وعن خلط السياسة بالدين، وعن تجديد الخطاب الدينى، وعن الدولة المدنية والمواطنة وحقوق الإنسان، وعن فتاوى هذه الأيام الغريبة المخجلة.. وغيرها من القضايا التى لا تزال مثارة لأن الأخطار التى تهددنا لاتزال تهددنا حتى الآن وتصرفنا عن الثقافة التى نعلم علم اليقين أن تراجعها سبب رئيسى من أسباب الأوضاع الخطيرة التى نعيش فيها، وأننا لن نقاوم هذه الأوضاع ولن نتخلص منها إلا بمناخ جديد تهيؤه لنا ثقافة جديدة تطهر نفوسنا مما أصابها بسبب الكوارث المتلاحقة التى منينا بها خلال العقود الماضية.. ثقافة تتأسس على الإيمان بالحياة وعلى الديمقراطية واحترام العقل وحقوق الإنسان.. وفى هذه الثقافة يؤدى الأدب دورا لا يؤديه نشاط آخر، لأن الأدب بفنونه المختلفة يزودنا بحاجتنا للإبداع. والإبداع يقظة روحية ورؤى جديدة وتأهب واكتشاف واندماج فى العالم. والأدب يزودنا بمعرفة تراثنا وهو أساس فى وجودنا، لأننا لا نأتى من الحاضر وحده، بل نأتى أيضا من تاريخ بلادنا ومن أسلافنا الذين سبقونا وأكسبونا هويتنا وطبعونا بالطابع الذى يؤلف بيننا ويجعلنا جماعة قومية متحدة، والأدب يلبى حاجتنا لمخاطبة أنفسنا وتذوق ما فى لغتنا من جمال، والأدب ينقذنا من العزلة والوحشة ويطهر نفوسنا من الخوف واليأس والقبح والعنف ويملأ جوانحنا بالثقة والإقبال على الحياة.. باختصار؛ الأدب يداوى ما فى نفوسنا من علل ويعيد لنا ما فقدناه فى زمن الطغيان والهزيمة والانكسار. وهناك من يقرأون هذا الكلام ويقولون إنه كلام مثقفين ينسبون لأنفسهم أو لما يقومون به فضائل خيالية، ويرون هؤلاء السادة أن ما نواجهه ونعانيه أكبر بكثير من أن يعالج بقراءة القصائد والقصص، لكن هؤلاء واهمون، لأنهم يظنون أن الأدب ليس إلا حرفة يشتغل بها البعض ولا تهم غيرهم. ولو راجعوا أنفسهم لأدركوا أن الأدب بالذات يهم الناس جميعا المثقفين وغير المثقفين وحتى الأميين، لأن الأدب هو اللغة، واللغة ركن أساسى فى وجود الناس جميعا، وإلا فلمن ننسب الأدب الشعبى: المواويل، وأغانى العمل، والبكائيات، والسير الشعبية، وغيرها؟ سوى أن اللغة الدارجة التى تستخدم فى هذه الفنون الشعبية غير الفصحى التى يستخدمها عامة المشتغلين بالشعر والقصة.. هل يكون الأدب مع هذا نشاطا لا أهمية له؟ وسوف أفترض أننا فقدنا نصوص الأهرام، وصلوات إخناتون، ووصايا بتاح حوتب، وقصائد البهاء زهير، وابن الفارض، والبوصيرى، وموشحات ابن سناء الملك، ودواوين البارودى، وشوقى، وحافظ، والسيرة الهلالية، وقصص وروايات ومسرحيات توفيق الحكيم، وتيمور، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وغيرهم من الشعراء والكتاب.. لو فقدنا هذه الأعمال هل تظل مصر كما نراها الآن وكما يراها العالم ويعرفها؟. لابد أن يكون الجواب بالنفى، لأن أحدا لا يتصور مصر دون ما أبدعته فى الثقافة وفى الفنون والآداب على اختلاف أشكالها، فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كانت مصر لا تكون بغير الثقافة وبغير ما كتبه كتابها ونظمه شعراؤها، فأين هو الأدب المصرى الآن؟ وأين هو الشعر بالذات؟. إذا نظرنا فى الصحف والمجلات وتابعنا ما تقدمه الإذاعات وما يصدر عن دور النشر فسوف نرى بالطبع أن الشعر موجود، لكنه وجود كالعدم، لأن معظم القائمين على نشره لا يعرفونه إلا بصوره الظاهرة التى لا يميزون فيها بين الجيد والردىء، ولأن معظم النقاد يفضلون الكتابة فى الفنون الأخرى التى يجدونها أسهل وأروج من الشعر، والنتيجة هى انصراف القارئ الذى تشغله حياته اليومية ومطالبها العاجلة، فإن بقى وقت للشعر فهو ينتظر من الناشر أن يقدم له نصوصا يثق فى قيمتها، وينتظر من الناقد أن يضىء له هذه النصوص ويعرفه بأصحابها فتنشأ تلك العلاقة الحميمة التى تشجع الشاعر على النظم، وتشجع الناشر على النشر، وتشجع الجمهور على القراءة. ونحن نعرف أن الشعر فن صعب وطويل سلمه كما كان الشاعر القديم يقول، لأنه لغة أخرى تختلف كثيرا عن لغة النثر، فضلا عن لغة الحياة اليومية التى نستخدمها فى الاتصال والإشارة إلى الموضوعات المختلفة. وهى بهذه الوظيفة لغة مشتركة نعرفها جميعا ونتكلمها جميعا ونتفاهم بها دون أن نبذل أى جهد فى استخدامها، اللهم إلا فى المسائل والقضايا التى تحتاج إلى الشرح والتفسير والإقناع، أما لغة الشعر فهى إبداع وخلق جديد فى كل قصيدة وفى كل قراءة وهى جمال نتلقاه من الشاعر ونتذوقه وننفعل به بقدر ما نملك من ثقافة وحساسية وخبرة باللغة وتراثها ودلالاتها وإيحاءاتها الظاهرة والخفية. هذه الشروط إذا لم تتوافر فى كل الأطراف المشاركة فى قول الشاعر وتلقيه، أى فى الشاعر والناشر والناقد والقارئ، فالنتيجة هى موت الشعر أو تراجعه وانزواؤه، ليكون مجرد صورة أو ملء فراغ.. فهل مات الشعر فى مصر؟. إذا نظرنا فى منابر النشر المختلفة فسوف نرى أن الشعر لم يعد له إلا وجود هامشى كما قلت وكما نرى بالفعل، لكنى بالرغم من هذا أعرف بحكم علاقتى الوثيقة بهذا الفن وبالمشتغلين به أن الشعر حى فى مصر، وأن مصر فيها شعراء يعدون بالعشرات، نعرف منهم من وجد طريقه للنشر والنقد، ونجهل الآخرين الذين لم يتح لهم أن يصلوا إلى القراء والنقاد.. فهل آن لنا أن نهتم بهؤلاء وأن نكشف الغطاء عن هذه الثروة المجهولة؟ هل آن لنا أن نعود للشعر؟ وهل آن للشعر أن يعود إلينا؟. لمزيد من مقالات بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى