الدولار يتراجع.. أسعار العملات اليوم الثلاثاء بالبنك المركزي (تفاصيل)    محافظ كفرالشيخ: توريد 178 ألف طن من القمح وصرف مستحقات المزارعين بانتظام    «تليق يا مو».. كيف تفاعلت جماهير ليفربول مع قرار سلوت تجاه صلاح؟    مشروعات عملاقة تنفذ على أرض أشمون.. تعرف عليها    الملاذ الآمن يتألق من جديد.. ارتفاع ب أسعار الذهب مع تراجع الدولار وتصنيف «موديز»    فلسطين.. الطائرات الإسرائيلية تشن 10 غارات على شرق غزة وجباليا شمال القطاع    نتنياهو: الحرب يمكن أن تنتهي غدا إذا تم إطلاق سراح الرهائن المتبقين    تكريم طالبين بجامعة عين شمس لحصولهما على جائزة بمسابقة عمرانية    أحدها لم يحدث منذ 2004.. أرقام من خسارة ليفربول أمام برايتون    لحل أزمة استقالة كامل أبو علي.. جلسة طارئة مع محافظ بورسعيد    أحمد دياب: إيقاف النشاط أمر غير وارد    عاجل| عرض خليجي خرافي لضم إمام عاشور.. وهكذا رد الأهلي    صيام صلاح مرة أخرى.. ترتيب هدافي الدوري الإنجليزي الممتاز بعد خسارة ليفربول    الأهلي والزمالك.. من يتأهل لنهائي دوري السوبر لكرة السلة؟    نزاع بشأن وصية.. محامي حفيد نوال الدجوى يكشف مفاجآت جديدة في واقعة السرقة    نفوق 10 آلاف دجاجة.. 7 سيارات إطفاء للسيطرة على حريق بمزرعة دواجن بالفيوم- صور    الأرصاد تُحذر: شبورة ورياح مثيرة للرمال والأتربة على هذه المناطق اليوم    حبس شاب متهم بالشروع في قتل آخر بالعياط    إصابة 3 أشخاص في مشاجرة بسبب خلافات الجيرة بسوهاج    الإفتاء: لا يجوز ترك الصلاة تحت اي ظرف    فضل حج بيت الله الحرام وما هو الحج المبرور؟.. الأزهر للفتوى يوضح    محافظ القليوبية يتفقد أعمال تطوير مستشفى النيل ويشدد على سرعة الإنجاز (صور)    سيلان الأنف المزمن.. 5 أسباب علمية وراء المشكلة المزعجة وحلول فعالة للتخفيف    جيش الاحتلال يعلن مقتل رقيب وإصابة اثنين آخرين في عملية عربات جدعون    وسام البحيري يعلن مفاجأة ببرنامجه "من تراثنا الإذاعي" بإذاعة القرآن الكريم    رئيس شعبة مواد البناء: لولا تدخل الحكومة لارتفع سعر طن الأسمنت إلى 5000 جنيه    أحمد كمال صاحب دور المجنون ب إعلان اتصالات: مكناش نقصد نزعل الزملكاوية والأهلي عشق (فيديو)    سفير مصر في بروكسل يستعرض أمام البرلمان الأوروبي رؤية مصر تجاه أزمات المنطقة    «ليست النسخة النهائية».. أول تعليق من «الأعلى للإعلام» على إعلان الأهلي (فيديو)    منافس الزمالك في ربع نهائي كأس الكؤوس الأفريقية لليد    إغلاق 7 منشآت طبية مخالفة و7 محال تجارية فى حملة بقنا    هل يوجد في مصر فقاعة عقارية؟.. أحمد صبور يُجيب    شعبة المواد الغذائية تكشف 4 أسباب لعدم انخفاض أسعار اللحوم مقارنة بالسلع التموينية (خاص)    وفد قبطي من الكنيسة الأرثوذكسية يلتقي بابا الڤاتيكان الجديد    سامي شاهين أمينا للحماية الاجتماعية بالجبهة الوطنية - (تفاصيل)    جامعة حلوان تنظم ندوة التداخل البيني لمواجهة تحديات الحياة الأسرية    بعد نجل محمد رمضان.. مشاجرات أبناء الذوات عرض مستمر في نيو جيزة| فيديو    وزير الاستثمار يتوجه للعاصمة الألمانية برلين لتعزيز العلاقات الاقتصادية المشتركة بين البلدين    عليك إعادة تقييم أسلوبك.. برج الجدي اليوم 20 مايو    تامر أمين ينتقد وزير الثقافة لإغلاق 120 وحدة ثقافية: «ده إحنا في عرض مكتبة متر وكتاب»    "يا بختك يا أبو زهرة".. الصحفي محمد العزبي يكشف تفاصيل وقف معاشه بعد بلوغه ال90 عاما    حدث بالفن | حقيقة إصابة عبدالرحمن أبو زهرة ب "الزهايمر" وموعد حفل زفاف مسلم    موعد نقل القناع الذهبي لتوت عنخ آمون إلى المتحف المصري الكبير    أستاذ علاقات دولية: الاتفاق بين الهند وباكستان محفوف بالمخاطر    ما مصير إعلان اتصالات بعد شكوى الزمالك؟.. رئيس المجلس الأعلى للإعلام يوضح    4 أبراج «زي الصخر».. أقوياء لا ينكسرون ويتصرفون بحكمة في المواقف العصيبة    استشهاد 10 فلسطينيين بينهم أم وأطفالها الستة في قصف للاحتلال على قطاع غزة    ترامب يوقع مشروع قانون يجعل نشر الصور الإباحية الانتقامية جريمة اتحادية    سلطات فرنسا تعلن مصرع مهاجر وإنقاذ أكثر من 60 آخرين فى بحر المانش    سرعة الانتهاء من الأعمال.. محافظ القليوبية يتفقد أعمال تطوير مستشفى النيل    وزير العمل: قريباً توقيع اتفاقية توظيف للعمالة المصرية في صربيا    هل يجوز للمرأة أداء فريضة الحج عن زوجها أو شقيقها؟.. أمينة الفتوى: هناك شروط    «للرجال 5 أطعمة تحميك من سرطان البروستاتا».. تعرف عليهم واحرص على تناولهم    خالد الجندي: الحجاب لم يُفرض إلا لحماية المرأة وتكريمها    مزارع الدواجن آمنة إعلامى الوزراء: لم نرصد أى متحورات أو فيروسات    ما حكم صيام يوم عرفة للحاج وغير الحاج؟    رئيس جامعة دمياط يفتتح المعرض البيئي بكلية العلوم    موعد امتحانات الشهادة الإعدادية بالمنيا 2025.. جدول رسمي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية..
ذكريات فاروق حسنى
نشر في الأهرام اليومي يوم 14 - 06 - 2019

وربما كان أول ما يلفت الانتباه إلى فاروق حسنى على مستوى الممارسة فى العمل والسلوك الوظيفى هو الشجاعة فى اتخاذ المواقف والقدرة على خوض المعارك والاستمرار فيها إلى أن يحقق النجاح الذى يتطلع إليه ويرجوه لنفسه ولوزارته.
وأشهد أنه فى أحيان كثيرة كان يتولى المعارك التى كان ينبغى أن يتركها للعاملين معه، مُعفيًا إياهم من مواجهة الرأى العام أو ذوى النزعة السلفية، دفاعًا عن قطاعات لم يكن القائمون عليها يجرأون على الكلام أو حتى الدفاع عمّا يقع فى قطاعاتهم، خصوصًا فى المسرح أو السينما أو غيرهما من الفنون التى كانت تتصل بالحياة اليومية للمواطن المصرى الذى كان قد أصابته عوامل «التديين» التى عادت به إلى الوراء قرونًا وقرونًا.
ولم يكن ذلك بغريب على فاروق حسنى الذى ظل – ولا يزال- مؤمنًا كل الإيمان بالدولة المدنية الحديثة وثقافاتها الملازمة والطليعية فى الوقت نفسه. ولذلك فتح الأبواب إلى أبعد مدى أمام أشكال التجريب فى المجالات المتنوعة للفنون، ابتداء من فنَّى الرسم والنحت وليس انتهاء بفنَّى الشعر والمسرح. ودليل ذلك هو إنشاء مهرجان المسرح التجريبى الذى فتح كل آفاق التجريب أمام الباحثين عن طُرق وتقنيات جديدة للتعبير عن واقع مختلف وعن آفاق متغيرة، لا تكف عن الحركة إلى الأمام. ورغم كل الهجوم الذى انصب على مهرجان المسرح التجريبى من ضيقى الأفق وأنصار الثقافة السلفية، فإنه ظل صلبًا فى موقف المدافع عن أهمية التجريب سواء فى الحياة كلها أو فى مجالات المسرح وغيره من دوائر الفن التى لا تحيا ولا تزدهر إلا بالتجريب وتشجيعه.
ولا أدل على ذلك من اختياره «التجريد» سبيلًا إلى التعبير عن رؤاه الإبداعية بوصفه رسّامًا معاصرًا، يعيش زمنه، وينتسب إلى الطليعة الإبداعية فيه. و»التجريد»- فى الفن التشكيلى بعامة والرسم بخاصة- هو مذهب يعتمد على إنتاج أشكال ونماذج مجردة، تتباعد عن مشابهة المُشَخَّصَات والمرئيات فى صورتها الطبيعية أو الواقعية. ويتميز بمقدرة الفنان على رسم الشكل الذى يتخيله سواء من الواقع أو الخيال بطريقة جديدة، قد لا تتشابه مع الشكل الأصلى للموضوع الواقعى، فالأهم فى فن التجريد هو العلاقات الفنية بين الخط واللون والمساحة، التى تختزل الحضور العينى للموضوع فى حضور تجريدى منفصل عن أى تعين.
ولذلك يجد المختصون تشابهًا بين هذا النوع من الفن من حيث طبيعته وفن الموسيقى التى هى أنغام تُسمع ولا تُمثِّل الطبيعة، أو تعيد نَسْخها أو مُحاكاتها. وأعلامه يضمون بيكاسو الأشهر، وموندريان، وﭽاكسون بولوك، وكاندينسكى وغيرهم.
ولعل موافقته على إقامة بينالى دولى للرسم فى القاهرة والإسكندرية وسمبوزيوم دولى للنحت فى أسوان، وإيكاله الإشراف على هذا الملتقى التجريبى لصديقه آدم حنين هو دليل على الإيثار الدائم للتجريب الذى لا يكف عن فتح الآفاق المغلقة والبحث عن كل جديد ممكن فى عالم الحَجر أو تشكيل الكتل الجرانيتية. وما أكثر ما كنتُ أتصور أن تطويع هذه الكتل الجرانيتية كان يوازى رمزيًّا قدرة الثقافة على تطويع العقول السلفية المتحجرة أو فتح آفاقها لكى تهب عليها وتؤثر فيها نسائم الحرية التى هى اللازمة المنطقية لكل إبداع خلاق.
ولم يكن إيمان فاروق حسنى بالدولة المدنية وثقافتها الخلاقة سوى الوجه الآخر من إيمانه بعدالة التوزيع الثقافى، ولذلك تتابعت المشروعات التى أشرف عليها عبر صندوق التنمية الثقافية الذى كان فكرة مبتكرة من أفكاره التى نجحت فى إنقاذ الوزارة من البيروقراطية المالية المحدودة لوزارة المالية وللميزانية المقررة لوزارة الثقافة، فاهتدى إلى ضرورة إنشاء صندوق التنمية الثقافية، وهو الأمر الذى ساعده على تدبير موارد مالية مضافة أعانته على إنشاء مشروعات ثقافية كبيرة وضخمة ما كان يمكن تحقيقها عن طريق القوانين والميزانيات التقليدية.
والحق أن صندوق التنمية الثقافية كان عملًا ثوريًّا بامتياز، فتح لوزارة الثقافة – فى عهد فاروق حسني- آفاقًا غير محدودة من الدعم المالى لمشروعات كانت مصر فى أمسِّ الحاجة إليها فى قطاعات الآثار الفرعونية والإسلامية، وفى قطاعات المكتبات والفنون والحرف الشعبية.
وكان هذا الإيمان بعدالة التوزيع الثقافى يدفع إلى الإعلان عن تبنى الوزارة لكل من يتبرع بمساحة كافية من الأرض لبناء مكتبة جديدة وتزويدها بالكتب النافعة المفيدة لأبناء الحى أو المنطقة أو القرية، وذلك إسهامًا فى تسريع إيقاع مشروع القراءة للجميع، وهو مِن أنجح المشروعات التى لا تزال قائمة إلى اليوم، والتى لا تزال ذات أثر إيجابى خلاق فى تحقيق المعنى الواقعى لمفهوم العدالة الثقافية. أعنى تلك العدالة التى كان يحلم بها أمثال طه حسين الذى نادى بأن يكون العلم كالثقافة حقًّا لكل مواطن على أرض مصر، ولتوفيق الحكيم الذى كان أول من حلم بمشروع القراءة للجميع.
وكانت اللازمة المنطقية لإيمان فاروق حسنى بالدولة المدنية الديموقراطية الحديثة، الإصرار على ضرورة وجود الحرية التى تبيح لكل المثقفين أن يُفكِّروا أو يجتهدوا أو يبدعوا فى حرية كاملة، وأن يختلفوا بما يحقق لأعمالهم ولأفكارهم التنوع البشرى الخلاق.
ولذلك أصبح المجلس الأعلى للثقافة ساحة مفتوحة تتحقق فيها حرية القول والفعل والتفكير والكتابة، ولذلك تحول المجلس الأعلى للثقافة مع الوقت على مستويات المؤتمرات العديدة التى لم تنقطع فى قاعاته إلى ساحة هايد بارك مصرية جديدة، لا حِجر فيها على رأى ولا مصادرة فيها على فكرة. وكانت النتيجة أن تحولت قاعات المجلس الأعلى للثقافة إلى منابر حرة لكل تيارات الفكر والإبداع على مستوى العالم العربى كله، وذلك إلى الدرجة التى ازدحمت فيها قاعات المجلس بكل الباحثين عن حرية القول والممارسة على امتداد الوطن العربى كله. وكانت النتيجة أن لم يعد المجلس الأعلى للثقافة مجلسًا أعلى للثقافة المصرية فحسب بل أصبح – وبحق- مجلسًا أعلى للثقافة العربية، فى كل تطلعاتها إلى القيم التى لا يمكن أن تستمر الحياة أو تتقدم بدونها، وهى قيم الحرية والعدالة والتنوع الخلاق فى آن.
ولم يكن هذا ساريًا على مستوى العالم العربى وحده، وإنما على مستوى العالم كله، فلولا الدعم المالى الذى تكفل به فاروق حسنى ما استطاع المجلس الأعلى للثقافة أن يخوض محيطات الثقافة العالمية، وأن يدعو كبار فلاسفة العالم من أمثال «جاك دريدا»، أو مؤرِّخى الأدب من أمثال المستشرق الإسبانى «فيديريكو كورينتى»، أو المفكر الفرنسى «روﭽيه جارودى»، فضلًا عن الكاتب الألمانى «مارتين موزباخ»، والشاعرة السويسرية «سيلفيان دوبوى»، والشاعر الكرواتى «دراجو شتامبوك»، وعالم الموسيقى الإسبانى «رافائيل بيريث»، فضلًا عن الروائى العالمى «ماريو بارجاس يوسا»، والمؤرخ البريطانى «مارتن برنال» صاحب الكتاب الشهير «أثينا السوداء».
وكان من الطبيعى أن يدفع فاروق حسنى ثمن إيمانه بثقافة الدولة المدنية الحديثة، فلم يكن منطقيًّا أن يسكت عنه أنصار الدولة الدينية ودعاتها من الإخوان والسلفيين الذين شجعهم فى الهجوم على فاروق حسنى ووزارته وقياداتها، المساحة الرحبة التى سمح بها نظام مبارك، الرئيس الأسبق، خصوصًا فى استمرار تحالفه مع الإخوان المسلمين والجماعات السلفية. وهو التحالف الذى كان قد بدأ مع السبعينيات الساداتية، واستغله السادات لكى يتخذ منهم درعًا أو سلاحًا يواجه به العناصر القومية واليسارية المناوئة له فى الدولة.
وحتى عندما قُتل السادات بأيدى حلفائه وجاء الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك لكى يعقد مصالحة وطنية، فإن هذه المصالحة لم تخلُ من تهادن مؤقت مع الجماعات التى عادت السادات واغتالته فى النهاية. وكانت النتيجة ارتفاع صوت جماعات الإسلام السياسى والسماح لها بدخول البرلمان المصرى والسيطرة على توجهات نوابه، ومن ثم شيوع العداء لكل ما يبدو مدنيًّا، سواء على المستوى الدينى أو السياسى أو الاجتماعى بوجه عام. ولم يقتصر الأمر فى ذلك على إشاعة نوع من «التديين» المُعادِى للتقدم، بل الموافقة على تغلغل هذا التديين إلى مفاصل الدولة ومؤسساتها التضامنية. وكانت النتيجة استمرار صعود عملية التديين لوعى المجتمع المصرى وأفقه الذى ظل على انحداره، ولا يزال.
ولم يكن أمام العاملين فى وزارة الثقافة – وعلى رأسهم فاروق حسنى- سوى أن يواجهوا هذا التيار ويقفوا ضده فى كل مجال من مجالات العمل الثقافى. وكانت النتيجة المتوقعة هى التربص الدائم بكل إنجازات وزارة الثقافة ومطبوعاتها وإبداعاتها على السواء. وقد وصلت نتيجة تديين المجتمع إلى الدرجة التى دفعت عددًا من السلفيين إلى مهاجمة فاروق حسنى بسبب أحد تصريحاته عن الحجاب، وهو تصريح برىء فى الواقع، ولا جُناح عليه دينيًّا، ولكن الاستغلال السياسى له، وتواطؤ بعض أعمدة النظام – فى ذلك الوقت- مع ممثلى الإسلام السياسى أدى إلى ضجة كبيرة فى البرلمان حول تصريح سلبى نُسِبَ إلى فاروق حسنى عن الحجاب. ولم تهدأ الثورة فى البرلمان إلا بعد أن تدخل العقلاء من رموز الحكم التى وصلت مع رموز التأسلم السياسى فى البرلمان إلى حل وسط يوقف التصاعد الكارثى للهجوم الدينى على فاروق حسنى.
والحق أننى لم أكن أراه جازعًا أو مهتزًا طوال هذه الأزمة، فلم أرَ فيه إلا المثقف المستنير الذى لا يتخلى عن مبادئ الاستنارة ولا عن الأصول المؤسِّسة لثقافة الدولة المدنية وإيمانه بالفكر الليبرالى الذى ورثه عن أساتذة الاستنارة الكبار مثل طه حسين وعباس العقاد وحسين فوزى ولويس عوض وأستاذه ثروت عكاشة وغيرهم من الذين كانوا يرون أن «التفكير فريضة إسلامية»، وأن العقل هو حجة الله على خلقه من البشر. وأن قضية الحجاب هى قضية خلافية لا يمكن حسمها فى هذا الاتجاه أو ذاك. وقد نجحت تعليمات رئيس الجمهورية إلى أركان نظامه فى إطفاء نيران هذه العاصفة البرلمانية التى كادت تُطيح بفاروق حسنى لولا موقف رئيس الجمهورية وحُسن إدارة رئيس البرلمان للأزمة.
والحق أننى عندما أسترجع ذكرياتى فى العمل مع فاروق حسنى أسترجع تاريخًا عاصفًا لم يكف فيه هذا الرجل عن توسيع أفق الاستنارة والدفاع عنها فى مواجهة التيارات الإظلامية، إيمانًا منه بمستقبل الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة والثقافة الملازمة لها والمؤسِّسة لها على السواء.
وكان من الطبيعى أن أكون مع فاروق حسنى فى مواقفه ومؤيدًا له فى أزماته، وكلانا مؤمن بالدولة المدنية الديمقراطية الحديثة قولًا وفعلًا، وكلانا لا يزال يرفض الدولة الدينية التى كان يدعو إليها دعاة الإخوان والسلفيين (الذين لا أمان لهم) وأتباعهم من رجال الأزهر الذين استغلوا الفرصة لكى يؤسسوا لأنفسهم سلطة دينية مضافة لا يوجد ما يدعمها فى الإسلام ونصوصه الأساسية.
ولا أزال أذكر اليوم الذى قابلنى فيه فاروق حسنى وسألنى فرحًا إذا كنتُ قد قرأتُ كتاب الشيخ عبدالمتعال الصعيدى عن «حرية الفكر فى الإسلام»، فقلتُ له إننى لم أقرأه، فأعطانى نسخة مصورة منه طالبًا مِنِّى أن أقرأه وأن أكتب عنه. فقد رأى فى الكتاب وفى كُتب الرجل الأخرى تأسيسًا لنظرة مدنية جديدة لأفكار مستقبلية عن الحرية الفكرية التى يسمح بها الإسلام، وكيف يمكن أن تكون هذه الحرية أساسًا جديدًا لنظرة مغايرة تؤكد الاتجاه العقلانى فى الإسلام، وتضيف إلى ما أعرفه من أفكار تأسست فى ذهنى عن قراءاتى للإمام محمد عبده وغيره من الذين تحدثتُ عنهم فى كتابى «هوامش على دفتر التنوير» الذى صدرت طبعته الأولى فى القاهرة سنة 1994.
والحق أن العقلانية الفكرية التى جذبت فاروق حسنى إلى ما كتبه عبدالمتعال الصعيدى عن «حرية الفكر فى الإسلام»، هى نفسها العقلانية التى جعلتنى مؤيدًا له ومدافعًا عنه فى الأزمة التى ترتبت على نشر هيئة قصور الثقافة لرواية الكاتب السورى حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». وقد واجه فاروق حسنى العاصفة البرلمانية التى أثارها نواب الإخوان والسلفيين على وزارة الثقافة بشجاعة وصلابة، وذلك على نحو أدى به إلى قول تصريح ملتبس المعنى فى الظاهر أو يحتمل التأويل السلبى لمن فى نفسه مرض. وهو تصريح سرعان ما استغلته إسرائيل، وجعلت منه سلاحًا لإسقاطه فى انتخابات اليونسكو التى كاد أن ينجح فيها لولا التحالف الأمريكى الإسرائيلى الذى حال بينه والنجاح فى الحصول على هذا المنصب رفيع القدر. وعاد فاروق حسنى إلى مصر بعد معركة عاصفة لم ينجح فيها حقًّا، لكنه أدى فيها دور المرشح القوى الذى يشرِّف مصر وثقافتها، وكان ذلك فى عام 2009.
واستمر عملى مع فاروق حسنى إلى أن انتهت مهمتى بالمجلس الأعلى للثقافة فى 2007، وتواصل العمل معه عندما نجحنا فى تأسيس المركز القومى للترجمة وإصدار لائحته المستقلة المتحررة من جمود القواعد البيروقراطية الجامدة للدولة، وهى القواعد التى وافق عليها مجلس الوزراء، وظل العمل فى المركز مستمرًا وقائمًا إلى أن وصلت الأوضاع فى مصر إلى طريق مسدود، كانت نهايته فى الخامس والعشرين من يناير 2011، وكنتُ على وشك تقديم استقالتى فى ذروة العصف العام الذى صنعته ثورة الخامس والعشرين من يناير والثورة التى فجَّرتها فى نفوسنا، ولكنى تلقيتُ مكالمة هاتفية يسألنى فيها الفريق أحمد شفيق رئيس الوزراء، عمّا إذا كنتُ مستعدًا للعمل معه لإنقاذ مصر، فقلتُ له لا يستطيع أحد أن يرفض العمل لإنقاذ مصر.
ولم أفهم أنه كان يعنى بهذا السؤال الانضمام إلى وزارة جديدة يتم تشكيلها، ولكنى فؤجئتُ بهذا التشكيل الذى وجدتُ نفسى فيه وزيرًا للثقافة. ووجدتُ نفسى متورطًا فى قبول منصب لم أسعَ إليه ولم أفكر فيه، ولا أزال أندم على قبولى له. وتداعت الأحداث على نحو وجدتُ نفسى فيه وزيرًا للثقافة فى 31 يناير 2011، وبعد أن أقسمتُ اليمين هاتفتُ فاروق حسنى، وسألته عمّا إذا كان من الممكن أن يدعونى إلى فنجان قهوة أشربه معه فى صباح الغد. فرحَّب بى كعادته ولم أشعر بأية نبرة تغير فى صوته سوى التهنئة والفرحة الحقيقية التى أعرف صدقها.
وفى صباح اليوم التالى قبل أن أذهب إلى المكتب الذى كان يجلس عليه، ذهبتُ إلى منزله وشربتُ معه فنجان القهوة واستأذنتُهُ إذا كان يسمح لى بالجلوس على مكتبه، ولم أرَ فى عينيه سوى المحبة والتقدير، وكل ما يشبه الصفات التى كان يلاقينى دائمًا بها. وتركتُه إلى مكتبه الذى لم أُغيِّر شيئًا فيه احترامًا وتقديرًا له.
ومن الطريف أننى لاحظتُ أنه لم يجرؤ أحد من بعدى على أن يُغيِّر شيئًا فى مكتب فاروق حسنى. ولا دلالة لذلك سوى أن كل الذين جاءوا بعده لا يختلفون على تقديره واحترامه، ولعلهم لا يزالون يُجمعون مثلى على أنه أهم وزير للثقافة بعد ثروت عكاشة، وعلى أنه نقل الشعلة من ثروت عكاشة إلينا لنكمل بها المشروع الحيوى للاستنارة المصرية الرائدة، وليس من الضرورى أن يكون ذلك عن طريق كرسى الوزارة، فالأهم هو مدى العمل الثقافى العام ومجال الكتابة التى لم تكن فى يوم من الأيام مصدرًا للخلاف بيننا، سوى مرة واحدة فحسب، كنتُ أهاجم فيها بشدة انحدار الثقافة المصرية فى عهد الرئيس الأسبق مبارك، فظن رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف أننى أهاجم فاروق حسنى ولم يفهم أننى لم أكن أعنى وزارة الثقافة وحدها، وإنما كنتُ أعنى الأوضاع الثقافية التى ليست مهمة وزارة الثقافة وحدها، وإنما مهمة وزارات التربية والتعليم والتعليم العالى والإعلام والشباب والأوقاف وغيرها من الوزارات التى تتصل بما يُسهم فى تكوين العقل المصرى وتوجيهه.
وقد شرحتُ له موقفى بل كتبتُ بوضوح ما أقصد إليه فى سلسلة مقالات نُشِرت فى هذه الجريدة تحت عنوان «الثقافة المصرية فى كارثة» بتاريخ 25/10/2010، و«وزارة مظلومة اسمها الثقافة» على حلقتين بتاريخى 1/11/2010، و22/11/2010 وبعد نشر المقالات زال غضبه، فقد كان ولا يزال يتمتع بقلب صافٍ مفتوح دائمًا لأصدقائه الذين يعرفون قدره وما له من أياد بيضاء على الثقافة المصرية، وإنجازات لا تزال تتحدث باسمه.
والحق أن ما بذله فاروق حسنى لبلده، ينبغى أن يُرد له تقديرًا وعرفانًا بعيدًا عن الأهواء وتغيرات السياسة، فالأهم فى حياة الشعوب هو الإنجازات التى تبقى لتُشير إلى أصحابها بعلامات من نور، وفاروق حسنى من هؤلاء الذين ينبغى أن أذكرهم بالعرفان والتقدير سواء على المستوى الشخصى أو على المستوى الوطنى العام.
لمزيد من مقالات د.جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.