سعدت بإقامة معرض الكتاب هذا العام على وجه التحديد لأكثر من سبب. أولها أن المعرض عرس للثقافة العربية كلها منذ أن تولت تأسيسه سنة 1969، وأشرفت على افتتاحه وإدارة سنواته الأولي، أستاذتى الدكتورة سهير القلماوي، عليها رحمة الله. ومنذ ذلك التاريخ، وأنا أحرص على الذهاب إلى معرض القاهرة للكتاب الذى لا يزال أكبر معارض الكتب العربية وأكثرها حيوية ونشاطا وزوارا؛ ولذلك فإن الإصرار على افتتاح معرض القاهرة الدولى للكتاب هذا العام، على وجه التحديد، يحمل دلالة مضيئة وإصرارا على التقدم فى الوقت نفسه، فرغم كل محاولات عصابة الإرهاب الإخوانية، وما تمكنت من إحداثه من دمار وتخريب، يقام معرض الكتاب تحديا للدمار والتخريب، وتأكيدا لحضور الاستنارة المقترنة بالدولة المدنية الحديثة، وذلك فى جهد دءوب وعنيد وحرص على أن تستمر القاهرة فى قدرتها الخلاقة على أن تشع أنوار العقل التى جعلت منها بحق صاحبة الريادة الثقافية على امتداد الوطن العربي. صحيح أن أغلب الأقطار العربية- إن لم يكن كلها- أصبح لها من معارض الكتاب ما يخصها، وتتنافس فى الاهتمام بها، لكن يبقى لمعرض القاهرة الدولى فضل الريادة، والاستمرار الناجح الذى يجعله أكثر جماهيرية وحضورا وتأثيرا ثقافيا تنويريا فى آن. ولذلك لم يخطئ من أطلق عليه عرس الثقافة العربية بأسرها، وأصاب الدكتور أحمد مجاهد كل الإصابة فى الإصرار على افتتاح المعرض فى موعده، تأكيدا للمعانى الثقافية التى يعنيها حضوره وافتتاحه. وعندما تجولت بين أجنحة المعرض المختلفة وقاعاته العديدة، وشاهدت زحام الأجيال على صالات العرض، ورأيت الآلاف المؤلفة منهم، وهى تتصفح الكتب، أو يحملون أكياس الكتب التى اشتروها، والبسمة تعلو وجوههم، والحيوية تميز خطاهم وحركاتهم، أحسست بالاطمئنان والفرحة والأمل: الاطمئنان على أن الثقافة العربية بكل إبداعاتها هى أقوى الأسلحة فى مقاومة جحافل الجهالة، وعصابات الشر، وشراذم الإظلام؛ فالثقافة هى النور التى تميز به الأمم بين التخلف والتقدم، وبين الماضى الآفل والمستقبل الواعد. وقد انتقلت فرحة الشابات والشباب بكتبهم الجديدة إلى مشاعري؛ فابتهجت لأنى رأيت فيهم طلائع المستقبل الذى سيبنى الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة التى شابت نواصينا، واقتربت سنوات حياتنا من نهاياتها، ولم نكمل تأسيسها بعد. ولذلك غمرنى الشعور بالأمل فى الغد الآتى بالحرية والعدل، فقد كنت أرى فى كل كتاب جديد يشتريه شاب أو شابة مصباحا منيرا، يسهم فى القضاء على ظلمة الإرهاب الغبى التى تحاول عصابات الإخوان أن تفرضها على هذه الأمة. ولا بأس من تكرار أن كل ندوات المعرض ومحاضراته وحلقات نقاشه إنما هى إعلان ثقافى عن التحدى بكل معانيه التى تؤكد أن ثقافة الاستنارة هى الوسيلة الحاسمة لتنوير الأذهان المظلمة، وفتح منافذ المعرفة لكل الأذهان التى أغلقتها ثقافة التخلف والتعصب والنقل الجامد. أما السبب الثانى لفرحتى بالذهاب إلى معرض القاهرة الدولى للكتاب فهو أن سلسلة الندوة الرئيسية كانت تدور حول طه حسين بوصفه رائدا من رواد الاستنارة العربية، ومعجزة فريدة فى تاريخ الثقافة المصرية الحديثة. الطريف والدال أن من أسس معرض القاهرة الدولى للكتاب هى أقرب تلميذات طه حسين إلى نفسه، وأكثر تلامذته إيمانا بالاستنارة وثقافة الدولة المدنية الحديثة، وهى أستاذتى سهير القلماوى التى كانت تدرك معنى رسالة طه حسين عن دور الجامعة الحديثة فى بناء المجتمع وتنوير وتثوير أفكاره وآفاقه الثقافية فى آن. ومن المصادفات الدالة أن يأتى معرض القاهرة الدولى للكتاب هذا العام بعد إزالة كابوس الدولة الدينية للتخلف التى أرادت جماعة الإخوان أن تعيق بها حركة مصر فى التقدم. وعندما نجح الشعب المصرى فى إزاحتها، مستعينا بقواته المسلحة، أظهرت الجماعة وجهها الإرهابى القبيح المعادى للثقافة والحضارة على السواء. وعندما يفتتح معرض القاهرة الدولى للكتاب فى أعقاب الدمار الذى حاق بمتحف الفن الإسلامي، فإن هذا الافتتاح واستمرار المعرض بالآلاف المؤلفة التى حضرته إنما هو إعلان عن قدرة ثقافة الاستنارة على مقاومة قوى الإظلام والجهالة. وعندما تكون شخصية العام المحتفى بها هى طه حسين المعروف بعدائه للفكر الإظلامى لجماعة الإخوان، فإن معنى قدرة ثقافة الاستنارة على الحضور والمقاومة وتحرير العقل تكون فى أبهى صورها وأقوى أشكالها. ولذلك كنت أشعر بشعور من زاملونى فى الحديث عن فكر الاستنارة عند طه حسين أننا نتحدث عن المبادئ التى ستقضى على كل الآثار السلبية لثقافة التخلف التى كان فكر جماعة الإخوان نموذجا لها. لقد عاش طه حسين (1889-1973) حياة مليئة بمعارك الدفاع عن فكر الاستنارة والتقدم على السواء. وكان هذا الفكر يدور حول مبادئ خمسة: أولها العقلانية، وثانيها الحرية، وثالثها العدل الاجتماعى والمعرفي، ورابعها مبدأ التطور الذى لابد أن يضيف به اللاحق إلى السابق فى سلم الصعود والحضور الإنساني، وهو المبدأ الذى يؤكد النزعة الإنسانية والتنوع البشرى الخلاق. أما المبدأ الخامس والأخير، فهو النظرة المستقبلية التى تجعلنا نقيس الحاضر دائما على إمكانات المستقبل الواعدة، وذلك دون أن ننغلق فى عبادة ماض انتهى ورحل. ولا يعنى ذلك إلغاء الماضى تماما، بل الحفاظ على القابلية للتجدد فيه، تلك القابلية التى تغدو دافعا من دوافع الحركة إلى المستقبل، والقياس على كل ما بعد بالتقدم، ويسهم فى الانتقال من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية. ولذلك فهم طه حسين الإسلام فهما عقلانيا، بعيدا عن الخزعبلات والخرافات، وأعلى من شأن العقل الذى جعله الله حجته على خلقه، ثوابا وعقابا، وكان فى ذلك يشبه قرينه عباس العقاد الذى جعل «التفكير فريضة إسلامية»، وكان الإيمان بالعقلانية هو الوجه الآخر من الإيمان بالعدل والإنسانية المتطورة المتعاونة والمتآزرة فى شتى المجالات. ولذلك كان فكر طه حسين النقيض المتقدم من الفكر المتخلف للإخوان الذين ناصبوا العقل العداء، وظنوا أنهم وحدهم الفرقة الناجية من المسلمين، وأسسوا للتمييز القبيح ليس بين المسلمين والمسلمين فحسب، بل بين المسلمين وأصحاب كل الديانات السماوية وغير السماوية، وسعوا بالفتنة والشر بين الجميع، شعارهم الاستعلاء الذى تجلى فى محاولات أخونة الدولة. ولذلك أحسن الدكتور أحمد مجاهد للمرة الثانية عندما احتفل بفكر طه حسين، مدركا أننا لا نكمل ذكراه الأربعين فحسب، بل نجعل من هذه الذكرى سلاحا من أسلحة الاستنارة فى دعم الدولة المدنية الحديثة، والقضاء على جهالات الإظلام والتعصب والأصولية. وكانت النتيجة أن أصبح لمعرض القاهرة الدولى للكتاب هذا العام سمة خاصة، جعلت منه بأكثر من معنى معرض مقاومة، مقاومة لإرهاب الإخوان ومذابحهم، مقاومة لكل فكر إظلامى وتوابعه، خصوصا تلك التى تتظاهر بما ليست عليه، تقية ونفاقا وتآمرا. ولذلك فالشكر كل الشكر لمن أكد معنى مقاومة الإظلام بالاستنارة، ووصل بين الثقافة وقيم الحق والخير والجمال، ولم يتوقف عن دعم ثقافة الدولة المدنية الحديثة، والتحية لكل المفكرين والمبدعين والناشرين الذين أضاءوا جوانب المعرض بمصابيح الاستنارة التى تطرد خفافيش الجهل والتعصب، وتشيع أنوار فكر الدولة المدنية الحديثة، والتحية واجبة للآلاف المؤلفة من زوار المعرض الذين اختاروا العلم والمعرفة بدل االجهل والتعصب، ومن ثم اختاروا التقدم بدل التخلف، وكأن كل واحد منهم كان يقول لنفسه بيت أحمد شوقي: أنا من بدل بالكتب الصحابا لم أجد لى وافيا إلا الكتابا لمزيد من مقالات جابر عصفور