تابعت المادة الاعلانية التي شرحت مشروع بناء 4000 وحدة في المناطق الصناعية الجديدة. وكان منها عدد لا بأس به من الوحدات في مدينة المحلة الكبري. المدينة القريبة من الوجدان الوطني بسبب دورها في تأسيس وقيام صناعة مصرية كانت فخرا للبلاد والعباد. وحسنا جاء هذا التخصيص لهذه المدينة. فعادة ما تحمل المدن او المناطق الجغرافية تراث الصناعة الذي مارسته ويبقي عالقا في تفكيرها حتي تتاح لها فرصة إعادة العمل به وتنميته وتطويره. وفي الواقع لم تنفصل هذه المدينة عن هذه الصناعة منذ زمن طويل حتي قبل ان يتجه إليها طلعت حرب لأنها تعرفت علي الانوال الخشبية منذ تاريخ طويل واستطاعت أن تتجه بإنتاجها إلي الطبقات الشعبية في الريف والحضر. ثم اشتبكت مع الصناعة الحديثة مع دخول الآلة وانشاء الوحدة الكبيرة وخط الانتاج الحديث نسبيا. ولا شك في ان موقعها الجغرافي وسط حقول الدلتا التي تزرع القطن ثم تمايزها بجو رطب ساعد اهلها علي توارث هذه المهنة. ولا تزال المحلة الكبري تضم هذه الوحدة الصناعية الكبيرة والتي كانت في يوم ما المفخرة الحقيقية لصناعة الغزل والنسيج المصرية والتي قدمت لنا الملبس ثم صدرته ثم طورت من نفسها حتي ولدت من رحمها وحدات اخري في كفر الدوار وغيرها. لقد سدت احتياجات الشعب المصري خلال اصعب ظروفه بدءا من الحرب العالمية الثانية إلي اسهامها الكبير خلال حرب الاستنزاف إلي يوم الانتصار في السادس من اكتوبر. ومع ذلك لم ينالها من البعض منا الا الاهمال ثم الهجوم غير المبرر لمجرد انها قطاع عام. حدث هذا مع العديد من الوحدات الصناعية الاخري دون ان يحاول هذا البعض التدقيق فيما يقول ليتحقق من الوقائع التي يذكرها. ولا شك في أن كل محب لمصر يرحب بقيام أي وحدة صناعية سواء كانت كبيرة او متوسطة او صغيرة، قطاعا خاصا او قطاعا عاما او تعاونيا. فالصناعة بالتحديد لا تزال تولد القيمة المضافة التي لا تبني الاقتصاد فحسب وإنما تساعد علي بناء الكوادر البشرية التي تسهم في بناء الوطن نفسه. فالصناعة تلعب دورا كبيرا فى إيجاد الرأسمال البشري لأي بلد. لذا بقدر ما ارحب بتخصيص الوحدات الصناعية في المحلة الكبري، التي ستكون بالقطع قطاعا خاصا، فإنني انظر الي الوحدة الكبيرة التي ولدت بنضال رجال الصناعة المصريين بعد الحرب العالمية الأولي علي انها لا تزال ركيزة أساسية لتطور هذه الصناعة في مصر. كما اراها، مع وحدات صناعية اخري تنتمي للقطاع العام، قد ظلمت ظلما بينا من تيار سياسي يؤمن ايمانا كليا بعلاقات السوق وما يمكن ان تقدمه الرأسمالية لتطوره وازدهاره. وهو تيار ينظر الي التطور الأوروبي بالتحديد علي انه صياغة رأسمالية بحتة. وهذا صحيح ولكن في ظروف عالمية مختلفة سمحت باستعمار البلدان وتوجيه اقتصادها لمصلحة المراكز الاستعمارية والمرور بمرحلة تصدير رأس مال. في حين ان دولا صغيرة ومنها مصر حاولت التمكن والبناء في ظروف مختلفة تماما. ومن اهم تلك الظروف أنها سعت إلي البناء في مرحلة ما بعد التحرر الوطني ومحاولة تحقيق الاستقلال الاقتصادي. بمعني ان هذه الدول الصغيرة الحديثة الاستقلال كان عليها ان تقدم الاشباع العام اعتمادا علي نفسها وليس استنزافا للاخرين. ونعود إلي تلك الوحدة الصناعية الكبيرة التي لا تزال تشغل حيزا في اقتصادنا بالرغم من كل الضربات التي طالتها مع وحدات شقيقة لها. ولا تعني عودتنا هذه محاولة ترجيح فكر علي آخر وإنما محاولة تحديد الأخطاء بحيث لا نكررها ونحن نسعي إلي هذه الاستنهاضة، إن صحت النيات. في البداية لا يمكن انكار وجود اخطاء إدارية او فساد اسهما في النيل من وحدات القطاع العام. ولكن وفي الوقت نفسه لا يمكن ارجاع هذا التراجع الكبير في اقتصادات هذه الوحدات الي عاملي الأخطاء الادارية والفساد وحدهما وإنما وجدت ظروف أخري اجتماعية وسياسية اسهمت في هذا التراجع. منها انها استمرت مصدرا لتمويل الخزانة العامة، في سنوات السلم او الحرب، دون ان تحصل علي نصيب وافر يساعدها علي التطوير والتجديد والاحلال. وقد استمرت هذه الوحدات تقوم بأدوار متعددة تخرج عن كونها مجرد مهام انتاجية مثل تحمل الفرق بين السعر الحقيقي للإنتاج والسعر الاجتماعي، كما استمرت تتحمل اجور تلك الدفع المطلوب تعيينها التي كانت تنهي خدمتها العسكرية. ولم تكن هذه الدفعات من الفنيين بقدر ما كانت من الشرائح الاجتماعية غير الفنية وفي كثير من الاوقات من الأميين. كانت هذه الأخطاء في السياسات العامة بالقدر الاكبر، ولم تكن اخطاء ادارية. ولكن حتي هذه السياسات لا يمكن الحكم عليها من منظور ظروفنا الحالية، لأن مصر كانت في طريق التحول الي الاستقلال الذي يتوقع منه المواطنون تحديدا الفقراء الذين حرموا من فرص الحياة الاشباع التعليمي والصحي في زمان ما قبل الثورة. وهي مشاكل ثم مطالب واجهت غالبية الدول الحديثة الاستقلال والخارجة من حقبة الاستعمار المباشر. إذا عدنا بالنظر والتدقيق الي هذه الفترة من منظور اليوم فسوف نوجه نقدنا لهذه السياسات التي لم تكن تحمل بعدا مستقبليا. لكن في وقتها كانت شكلا من اشكال اشباع حاجات الجماهير الفقيرة التي كانت في حالة حرمان بين.. كما كانت شكلا من اشكال مساندة البلاد في نضالها الوطني خاصة في مرحلة الاستنزاف. فكم من لوجستيات كانت وحدات القطاع العام هي المسئولة عن توفيرها للمقاتل المصري الواقف علي الضفة الغربية للبلاد فالدراسة الموضوعية لمسار هذه الوحدات العامة كفيلة بدفعنا الي الحفاظ عليها ودعمها وتطويرها مع استمرار تشجيع الوحدات الخاصة سواء كانت كبيرة او متوسطة او صغيرة. إنني أنتظر بفارغ الصبر ظهور كتان المحلة في الأسواق المصرية لأشتري منه ثوبا أزهو واتفاخر به أمام صديقاتي غير المصريات. لمزيد من مقالات أمينة شفيق