أؤمن بواجب أن نسطّر فى صفحة تاريخنا الأكاديمى ولو نزرا يسيرا عن نموذج مشرّف من الأساتذة الذين أفنوا عمرهم فى العلم والعمل، وأن نتأمل مسيرتهم ونستخلص منها ما يلزم من وقائع ودروس حتى ولو كانت مثيرة للجدل أحيانا. ففى الأسبوع الماضى رحل عنا إلى دار الحق، فى صمت وبلا أصدقاء أو زملاء أو أبناء الأستاذ الدكتور محمد زكى أبو عامر(1946-2019) أستاذ القانون الجنائى والعميد الأسبق لكلية حقوق الإسكندرية ووزير التنمية الإدارية الأسبق. ليس فى رحيل العالم الكبير غرابةٌ ولا خرقٌ لنواميس الكون، فكلنا راحلون فى يوم آت، لكن يبقى فى رحيله غصة ألم وشعور عميق بالاعتذار. فالدكتور محمد زكى أبو عامر أخذ فجأة قرارا بالانعزال عقب تركه منصب الوزارة التى شغلها 12 عاما، وأسلم نفسه لحالة من العزلة وهو لم يبلغ بعد الستين من العمر رأى فيها البعض شيئا من المبالغة لكن القريبين منه، ولعلى كنت واحداُ من هؤلاء، يعرفون جيدا لماذا انعزل واعتزل، وربما هنا فكرة هذا المقال وأهميته. لماذا ينعزل أستاذٌ جامعى مرموق وهو فى قمة عطائه وتوهجه؟ ولماذا أصبحت البيئة الأكاديمية جاحدةً فى مواجهة كبار أساتذتها لا سيّما المتعففين ذوى الكبرياء منهم؟ كان فى حياة الراحل الكبير بعدان إنسانيٌ ومهنى. (الإنساني) فى مسيرة محمد زكى أبو عامر يبعث على الحب والإعجاب. كان شخصية رقيقةً مرهفة، آسرةٌ وجذّابة وكأنه يحمل جهاز إرسال واستقبال ذبذبات الدفء الإنسانى التى تقرّب الناس إليه. فكل من يدخل مكتبه متذمرا لأمر ما فى أثناء عمادته الكلية يخرج راضيا مبتسما. كنت أمازحه قائلا إنه يمارس نظرية الإدارة بالحب والألفة. كان يحفظ قدر أساتذته وزملائه، وبرغم أنه عاصر جيل العظماء المنقوعين بماء الموهبة فى حقوق الإسكندرية فقد كان تنافسه شريفا وعفيفا فلم يعرف الأساليب الرديئة أو الكاذبة لإزاحة منافس. كان ككل الواثقين من أنفسهم يحترم الموهوبين ولا يفزع من موهبتهم بل كان يشيد بهم. أما البعد (المهني) فى مسيرته فكان مضيئا. كان أستاذا لامعا، بليغا، ساحرا، وكان رقيقا شديد الحنو مع تلاميذه. والمدهش أنه كان يحظى بشعبية هائلة وسط طلابه برغم أنه ينتمى لنموذج الأكاديميين ذوى الحزم والانضباط، وكان خلال فترة عمادته القصيرة جريئا غيورا على الكلية وسمعتها لا يعجبه الحال (المعوّج) وحينما سألنى فى فترة عزلته الأخيرة عن مدى صحة إنجاح الطلاب الحاصلين على درجتين فقط من عشرين ورددت بالإيجاب لاذ بصمت طويل ثم سألنى وفقا لأى لائحة؟ لم أجد محاولا ممازحته والتخفيف عنه سوى القول وفقا للائحة أكروباتية لم أستطع فهمها! ردّ فورا بالعكس إن فهمها فى غاية السهولة! كان للراحل د. زكى أبو عامر طموحٌ سياسى لكن فى كبرياء وبلا ترخص ولا تزلف. أصبح وزيرا فى الخامسة والأربعين من عمره، ولم يكن سرا أن المرحوم الوزير السابق كمال الشاذلى كان يتوجس من منافسته وقد تشاركا معا لعدة أشهر كوزيرين لشئون مجلسى الشعب والشورى سابقا حتى تم فض هذه الشراكة وتفرّغ لوزارة التنمية الإدارية. حاول جاهدا أن يفعل شيئا فى هذه الوزارة التى تعكس مشكلة مصر المزمنة فى ترهل جهازها الإدارى، لكن كانت ثقافة الوظيفة الميرى وشيوع الوساطة والمحسوبية والفساد أكبر من وزارته وأكبر من صلاحياته وجرأته فلم يستطع أن يفعل الكثير. وهل يملك رجلٌ واحد تغيير ثقافة مجتمع بأكمله؟ ومع ذلك فقد دخل د. أبو عامر الوزارة وخرج منها نزيها نظيف اليد بلا شائبة أو شائعة. لم تمنحه الوزارة شيئا بل أخذت منه عدة أشياء، فحين دخلها كان يسبقه لقبه الأكاديمى الكبير ونجوميته كمحام لامع فى الإسكندرية. وفور تعيينه عميدا لكلية الحقوق (بالانتخاب آنذاك) كان قراره إغلاق مكتبه كمحام ووقف نشاطه تفرغا واحتراما لأعباء منصبه الأكاديمى. وحين رحل إلى القاهرة كوزير ترك كل هذا وراء ظهره ليعود بعد 12 عاما وقد غادر الوزارة وفقد زوجته وحبيبته إثر مرض عضال وهى بالمناسبة إبنة الشاعر الغنائى الرقيق مرسى جميل عزيز الذى تغنى بكلماته العذبة عبد الحليم وأم كلثوم وفايزة أحمد وغيرهم. صحبها فى رحلة علاجها إلى الخارج ثم رحلت وتركته وحيدا. ومنذ عاد إلى الإسكندرية تشرنق فى عزلته فى سان استيفانو بالاسكندرية رافضا كل محاولات إخراجه من شرنقته واقتصر نشاطه الوحيد على محاضراته التى كان يقبل عليها بحب وشغف لكن كان للبعض من تلاميذه، بل تلاميذ تلاميذه مواقف لم تألفها الأعراف الجامعية لامست حدود كرامته الأكاديمية فآثر العزلة بصمت وانسحب من قاعة محاضراته التى كان أحد فرسانها المفوّهين. ثم اكتمل الجحود الأكاديمى بمناسبة احتفال الجامعة بعيد تأسيسها الخامس والسبعين حينما تمت دعوته لحضور الاحتفالية بوصفه السابق كوزير وعميد ووصفه الحالى كأحد أساتذتها الكبار، وبعد جلوسه بدقائق ولسبب لم يعرفه أو يفهمه أحد جاء أحد منظمى الاحتفالية طالبا منه تغيير مقعده والرجوع إلى الصف الرابع الخلفى، فما كان منه إلا أن حمل عصاه وغادر (المولد) كله كالفارس الأبى دون أن ينطق بكلمة واحدة! ومضى المشهد دون أن يتحرك أحد أو يحاول مسئول تقديم اعتذار لاحق إليه. والمثير للدهشة والأسى أن تكريم كبار الأساتذة كان يفترض أن يكون بندا فى هذه الاحتفالية. ليس المقصود هنا توجيه لومٍ لأحد مع أن للاحتفاليات قواعد ولتكريم الأساتذة أصولا يجب مراعاتها، فالمهم هنا هو القضية لا الأشخاص، والقضية باختصار أن ما يلقاه علماءٌ وأساتذةٌ كبار من جحود وتجاهل يبدو ملمحا جديداَ وغريبا فى بعض جامعاتنا. لا أكتب هنا بوصفى أحد تلاميذ الراحل الدكتور محمد زكى أبوعامر لكن لمصادفة كونى شاهدا على المعايير والآليات الجامعية للترشيح ومنح الجوائز التى تتجاهل الجديرين فأخطأت فى دهاليز تربيطاتها أستاذا بقيمة محمد زكى أبو عامر الذى لم يعرف فى حياته سوى الدأب والعمل. ارقد فى سلام أيها الحبيب، فعلمك ومؤلفاتك ومحاضراتك ما زالت محفورة فى عقول تلاميذك العارفين بقيمتك فى كل مكان. لمزيد من مقالات د. سليمان عبدالمنعم