«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تكشف عن إنشاء المعهد المصرى فى لندن..
رسالة لم تنشر إلى طه حسين من تلميذه سليمان حزين

الدكتور سليمان حزين لمن لا يعرفه، هو أحد أعمدة الثقافة والتنوير المجهولين فى مصر، وقد اختارته ثورة يوليو وزيرا للتعليم، وهو منشئ جامعة أسيوط، ورئيس الجمعية الجغرافية المصرية، ورئيس المجمع العلمى المصرى، ومناصب أخرى أهلته كفاءته لها، وبين أيدينا رسالة لم تنشر كتبها إلى طه حسين من لندن تكشف عن تأسيسه المعهد العلمى المصرى هناك كمركز ثقافى لمصر لايزال قائما فى وسط العاصمة البريطانية، وقبل الدخول فى تفاصيل الرسالة لابد أن نعرف المزيد عن الدكتور سليمان حزين كعلم من أعلام نهضتنا العلمية والثقافية، وما تمثله سيرته من قيم نحن بحاجة إلى تذكير أجيالنا الجديدة بها لبناء مصرنا القوية الجديدة الحديثة.
..............................
إذا كان «هيرودوت» قد أطلق مقولته التاريخية الشهيرة التى ذهبت حكمة ومثلا: «إن مصر هبة النيل»، فإن د.سليمان حزين كان أول من كشف عن نقص هذه المقولة وقصورها، حين قام بتصحيحها قائلا: «فإن مصر أيضا هى هبة المصريين» وأضاف موضحا: «لأن حضارة مصر ليست هبة النيل، وإنما هى ثمرة جهاد الإنسان على الأرض الطيبة». وقد كان د.سليمان حزين نفسه واحدا من المصريين الذين جاهدوا بالعلم على تلك الأرض الطيبة، كخير خلف لخير سلف، فقد كان والده أحد علماء الأزهر الذى أنجبه فى الرابع والعشرين من مايو 1909 فى إحدى قرى محافظة البحيرة، ليقضى سليمان طفولته بعد ذلك فى وادى حلفا قرب حدود مصر الجنوبية حيث كان والده منتدبا للعمل هناك.
وكان سليمان حزين مرتبطا بالأرض الطيبة ارتباطا يفوق الوصف مهما تضطره الظروف للابتعاد عنها، فقد رفض العمل بالأمم المتحدة إلا بشرط وهو أن يمارس عمله بها من داخل مصر التى أحبها وذاق طينها حقيقة لا مجازا، بل إنه فى إحدى الندوات التى أدارها بالمجمع العلمى المصرى ودعانى لحضورها بعد حوارى معه سمعته يقول أمام الحاضرين من علماء المجمع وضيوفه، إن الطمى فى النيل كالكريمة، وقد أكلته بنفسى وذقت طعمه فوجدته مثل الكريمة ولذلك يرى أن النهر هو أصل النعم، ومع ذلك نخلطه بالروث والمجارى، مما يجعل المواطنين خارج القاهرة يشربون فضلات القاهرة.
وهو يطالب بتصحيح هذا الوضع، كما يطالب بعدم ترقية الدلتا على حساب الصعيد، ولذلك كان سليمان حزين هو أول من طالب حين كان عضوا بمجلس الشورى بتطوير الصعيد، وقال: إننا كشجرة «الزقوم» التى لا نفع فيها، نأخذ خير الصعيد للشمال. ولم يأخذوا برأى سليمان حزين إلا بعد أن ارتفع صوت التطرف الذى كان إهمال الصعيد أحد أهم أسبابه، ولذلك يرى أن عقلية الحكم فى مصر قد تغيرت بتغير النظام الاجتماعى، مما يبشر بتبنى فكرة العدل والإنصاف لكل أبناء مصر، وإن كان ذلك لم يتحقق إلا قليلا. وقد كان تكليف سليمان حزين بإنشاء جامعة أسيوط 1955 هو أول اهتمام رسمى بصعيد مصر، لنشر العلم والثقافة فى جنوب الوادى، فجاء إنشاء هذه الجامعة كبير المولد بعد أن وفرت حكومة الثورة كل الإمكانات لنجاح أول جامعة يتم إنشاؤها خارج العاصمتين الكبيرتين: القاهرة والإسكندرية، وذلك عكس الجامعات الإقليمية الأخرى التى نشأت ناقصة التكوين والإمكانات. وخلال السنوات العشر التى قضاها سليمان حزين مديرا لجامعة أسيوط، لم يعمل على تأسيسها علميا فقط، بل أسسها أخلاقيا أيضا، عندما وضع فى حسبانه إلى جانب تربية العقل أن يربى الضمير ويؤدب النفس، وهى أركان لو توافرت فى جامعاتنا لما ظهر فيها تطرف من أى نوع، ولصارت منارات إشعاع للحضارة والتنوير.
وكان نفاذ بصيرة سليمان حزين الذى جعله أول من أدخل دراسة الحكم المحلى إلى الجامعات المصرية، حين أنشأ بكلية التجارة جامعة أسيوط قسما للإدارة العامة للحكم المحلى. وإذا كان قد جعل للتعليم بُعدا أخلاقيا ضروريا، فقد كان من الطبيعى أن يشارك فى لجان تطوير الأزهر، وكان يرى أن المسلم المصرى أقوى إيمانا من المسلم فى أى بلد آخر.
كذلك اختير مقررا للمجلس القومى للتعليم، ولم يطل به المقام وزيرا للتعليم لكى يضع بصماته التى لم يخل منها موقع من المواقع التى تولاها كمؤسس لقسم الجغرافيا بجامعة الإسكندرية، وأحد المشاركين فى تأسيس مجمع البحوث الإسلامية، ورئيس الجمعية الجغرافية المصرية، والمجمع العلمى المصرى، وظل يمارس نشاطه حتى آخر يوم فى حياته، حتى إنه حضر اجتماع الجمعية الجغرافية التى رشحته لجائزة مبارك قبل وفاته بيومين، حيث أبى إلا أن يودعنا مع وداعنا للقرن العشرين الذى سيظل أحد نجومه ورموزه إلى جانب أستاذيه لطفى السيد وطه حسين اللذين تعلم منهما قوة الشخصية واستقلالها، حتى إنه قد اصدر كتابا بعنوان «مستقبل الثقافة بمصر العربية»، مؤكدا فيه عروبة مصر، ردا على أستاذه طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى رأى فيه أن مصر أقرب إلى البحر المتوسط، ومن ثم فهى فى اتجاهها إلى أوروبا أقرب من اتجاهها إلى الشرق. ولكن سليمان حزين كان يرى أن مصر لا تُفهم بغير العروبة، والعروبة لا تُفهم بغير مصر، مؤكدا أن ثقافة مصر تقوم على أضلاع مثلث واحد، فهى إفريقية نيلية، وهى عربية إسلامية، وهى بحر متوسطية يونانية لذلك يرى أن مصر تجمع بين التنوع الثقافى ووحدة الشخصية، وذلك كما يرى هو مصدر قوة مصر على مدى التاريخ.
ففى البدء كانت مصر، وفى المنتهى كانت مصر فى قلب وعقل سليمان حزين الذى كان يرى أن المصريين أكثر إنسانية، وأنهم لا يُخرّجون طغاة، بل يُخرّجون أفكارا وعلماء، وأنهم يغامرون بأفكارهم ولا يغامرون بأجسادهم، وأنه لا يوجد بلد يعطى كمصر. وقد كان سليمان حزين من هؤلاء العلماء الكبار الذين أعطوا مصر، ولذلك لم يكن غريبا أن يردد فى الندوة التى شهدتها بدعوة منه فى المجمع العلمى المصرى، قول أحد الفلاحين الذى أعجبه: «عشت هنا وأموت هنا وجسمى يدفن هنا.. أُسبخ به أرضى، أرض مصر الطيبة».
وقد جاءت مقابلتى للدكتور سليمان حزين لأستوضح منه بعض التفاصيل التى أوردها فى خطاب له إلى د.طه حسين، كتبه فى الخامس من فبراير 1945، حيث كان يقيم فى «لندن» التى أسس بها «المعهد العلمى المصرى»، وقد جرى الحوار معه قبل وفاته بعام واحد، على النحو التالي:
كرامة الأستاذية
تحدثتم عن قرار إعادتكم إلى الجامعة.. فما الذى سبق هذه العودة من أحداث حاولتم التهوين من آلامها بالنسبة لكم وبالنسبة لطه حسين حينما قلتم له: أرجو ألا يكون الدكتور قد أعار هذا القرار أكثر مما يستحق من أهمية؟
أنا بدأت فى جامعة القاهرة 1925، وتخرجت فيها 1929، ثم عُينت وأرسلت فى بعثة لأعود مدرسا بالجامعة أول يناير 1936، ثم حدث أن أُنشئت جامعة الإسكندرية وكان ينظر إليها كاستكمال لجامعة القاهرة، فكنت أعمل بالجامعتين كأنهما جامعة واحدة، رغم استقلال جامعة الإسكندرية دون أى اعتبارات خاصة بالمكافآت، ثم حدث أن سافرت إلى لندن سنة 1943، فصار مكانى بجامعة الإسكندرية مطمعا لمن يعمل بالقاهرة، خاصة أحد الزملاء ولم يكن يحمل الدكتوراه، وإنما دبلومة من انجلترا، ولم تكن ترقيته بجامعة القاهرة ممكنة لأنه لا يحمل درجة علمية، فساعده أحد الأساتذة وعمل على نقله إلى جامعة الإسكندرية ليحل مكانى هناك ويصبح رئيسا للقسم، ولم أكن أُعير الأمر اهتماما، باعتبار أن فى الأمر خيراً أتى لزميل لم تتيسر ترقيته إلا بجامعة الإسكندرية. ولما عُدت وجدتنى مرءوسا لرجل لا يحمل درجات علمية، فلم أجد فى ذلك بأسا ولا حرجا، رغم أن ذلك الوضع قد أخر ترقيتى سنتين ونصف سنة بعد أن أنشئت درجة جديدة. ولم أجد أن حياتى قد تأثرت، فما دامت فرصة قد فاتتنى، فلأنتظر فرصة أخرى، وكنت ولا أزال مؤمنا بمقولة حكيمة هى: «لا تدع سلوك غيرك يملى عليك سلوكك». وهذا يتفق مع الروح الجامعية الحقة. ونتيجة لهذا المنهج الذى اتبعته فى حياتى صرت صديقا للجميع بمن فيهم الذين أخذوا حقوقى، وقد حاول طه حسين أن يدافع عنى، وعمل على نقلى من قسم الجغرافيا إلى قسم اللغة العربية لأحصل على ترقيتى المتأخرة، ولكننى اعتذرت له، وكلما كان يرانى يقول لى: هل الجغرافيا ثابتة عند رأيها؟، فأقول له: نعم.. الجغرافيا ثابتة عند رأيها، وأنا مازلت تلميذك فى غير مجال الأدب العربى. وكنت أرى دائما نفسى أعفو عمن ظلمنى، راضيا بما قسم الله لى، ومتأكدا أن عملى هو الذى يحدد مستقبلى لا عمل الآخرين، وقد رُقيت إلى رئيس قسم، ثم أراد طه حسين أن يستعين بى فى وزارة المعارف، فطلبت منه الانتقال بدرجتى الجامعية، وألا أُرقى إلى أى درجة أخرى مادمت بوزارة المعارف، حتى لا أحجب الترقية عن الزملاء بالوزارة، وظللت بدرجة «مدير عام أ» وهى درجة كانت موجودة بهذا الاسم آنذاك، وراتبها 1300 جنيه فى السنة.
وعندما توافرت الدرجات ولم يعد هناك صاحب حق لم ينل حقه، رضيت بالترقية إلى درجة وكيل وزارة، وكنت منذ البداية متفقا مع طه حسين أن يكون اتصالى به مباشرا كوزير. وهكذا كنت قبل أن أُرقى، أحصل على التقدير الأدبى الذى أستحقه، باتصالى بالوزير مباشرة دون أن يكون وكيل الوزارة هو واسطتى فى ذلك الاتصال. تلك كانت طريقتى فى الحياة، ألا أزاحم الآخرين أو أتعدى على حقوقهم وترقياتهم، وألا يلجئنى السلوك المعيب للبعض إلى أن أسلك سلوكهم المعيب الذى لا يتفق مع قيمة وكرامة الأستاذية. صحيح أن حقوقى المادية كانت تتأخر بضع سنوات، ولكن فى النهاية كنت أحصل عليها، وقد عملت مديرا لجامعة أسيوط، ثم صرت وزيرا ثم صرت موظفا بالأمم المتحدة، فقد كنت مصمما على خدمة بلادى من داخلها لا من خارجها، وأنشأت فى القاهرة أول مركز ديمغرافى للسكان خارج نطاق الدول الأوروبية وحصلت على راتبى بالدولار، ولا أزال أتقاضى معاشى من الأمم المتحدة بالدولار، فالله يعوضنا عما فاتنا مادامت نياتنا طيبة وسلوكنا لا يسيء إلى أحد، وهكذاعودت نفسى دائما طوال حياتى.
ويضيف وأذكر أننى عندما أرسلت لطه تلغرافا بعد إقالته من العمادة قلت له فيه: لست أرضى بغيرك عميدا.
وحين قابلته بعد ذلك، فقال لي: ألم تخف من العقاب وأنت ترسل هذا التلغراف؟ قلت له: أنا لا أخاف شيئا، إننى أفعل مثلك، ولا أخشى شيئا مهما يكلفنى ذلك من ثمن.
مواجهة مع السفير المصرى
ما أنضج الثمار التى نتجت عن تعاونك مع طه حسين؟
أرسلنى إلى لندن لإنشاء «المعهد المصرى» على غرار «المجلس البريطانى» فى القاهرة، الذى يعنى بالشئون الثقافية أيضا، فاستهوتنى الفكرة، شريطة ألا أرقى، هكذا كان مطلبى من طه حسين. وأراد سفيرنا فى لندن حسن نشأت أن يأخذنى تحت جناحه ويضغط عليّ لكى يكون المعهد من أجل الدعاية للملك ولكننى رفضت وقلت له: الملك ملكنا جميعا، ولكن لا شأن لى بالسياسة، وإنما المعهد علمى فقط، وقلت للسفير أيضا أنا ابن طه حسين وابن لطفى السيد، أى ابن الجامعة، ومركزى مستقل عن السفارة.
وذهبت لاستئجار المنزل رقم (4) القريب من السفارة لإنشاء المعهد، نظير 1500 فى السنة، ولكن محامى السيدة صاحبة المنزل استقلها لأنه سيخصم منها مائتا جنيه ضرائب، فأعلنت استعدادى لشراء البيت نظير خمسين ألف جنيه، وأرسلت تلغرافا لطه حسين بهذا المعنى، فجاء رده بالموافقة فورا، وانتهينا بعد المفاوضات مع محامى السيدة الإنجليزية إلى شراء المنزل بواحد وخمسين ألفا من الجنيهات، وقد وصل سعره اليوم إلى عشرين مليون جنيه. وقد أنشأت بالمعهد مكتبة للتعريف بمصر، وسط لندن، وأقمت علاقات مع الجامعات البريطانية، كما أقمت مركزا للدراسات العربية بالمعهد، وأصبح لمصر مركز علمى قوى فى العاصمة البريطانية.
لا أنتعل حذاء غيرى
ماذا يقصد طه حسين بتوجيهاته التى قلت إنك لا تنساها: «لا تقل شيئا ولا تسأل عن شىء»؟
يقصد ألا أُخرج أسرارى للناس، وأن أكون أنا برأيى، غير متأثر برأى غيرى، وهو المعنى نفسه الذى ذكرته لك سابقا: «لا تدع سلوك غيرك يملى عليك سلوكك» وهى حكمة تعلمتها من طه حسين ولطفى السيد، واتخذتها دستورا لحياتى.
قلت لطه حسين فى رسالتك إليه أنكم كنتم تفاخرون بأنكم تعلمتم عليه وتربيتم على يديه خلال سنوات كثيرة تقارب العشرين.. ذلك رغم أنك كنت فى قسم آخر لا يقوم فيه طه حسين بالتدريس لك؟
هذا صحيح، ولكننى كنت أحضر كل محاضرات طه حسين، حبا فى طه حسين، وتقديرا لدروس طه حسين، وحرية طه حسين واستقلال طه حسين. وكنت أُقلد طه حسين فى إلقاء المحاضرات دون أن يكون أمامى كتاب أقرأ منه، وكذلك محاضراتى باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وكنت أفعل مثلما يفعل طه حسين، فلا أسمح لأحد أن يتحدث مع زميله فى أثناء إلقاء محاضراتى، حتى لاحظت أن اثنين من الأساتذة يتحدثان، فطلبت من السكرتارية مطالبتهما بالصمت وإلا فإن عليهما مغادرة الجلسة.
ما الجديد الذى اختارك له طه حسين وقلت إنه فى اختياره لك لم يكن مغرضا ولا متميزا؟
اختارنى لكى أكون مديرا عاما للثقافة بوزارة المعارف، فى المكان الذى كان يشغله أستاذى محمد عوض محمد، واشترطت عليه شرطين، أولهما: ألا أُرقى كما ذكرت لك وثانيهما أن أستوثق من عوض نفسه أنه لم يترك مكانه لأننى جئت، وبالفعل قال لى عوض إنه سيترك مكانه فى الوزارة طواعية، وأن علىّ أن أحل مكانه، وإلا خربت الإدارة الثقافية وأضاف لطمأنتى أنه هو الذى اقترح اسمى على طه حسين لشغل هذا المنصب.
وحينما أراد طه حسين ترقيتى بعد خروج شفيق غربال من الوزارة إثر اختلافه معه، وأراد أن يعطينى درجته، فرفضت وقلت له: أنا لا أريد أن أنتعل حذاء غيرى وهو مثل إنجليزى ذكرته لطه حسين باللغة العربية.
يكتم إيمانه
من هى عزيزة التى ورد ذكرها فى خطابك إلى طه حسين؟
هى زوجتى، وكانت تلميذة لطه حسين، وهو الوحيد الذى استشرته فى الزواج منها، وكنت أول أستاذ يتزوج من تلميذته، ثم قلدنى الأساتذة بعد ذلك مثل أمين الخولى ومندور. وأحب أن أذكر لك أن زوجتى عزيزة هى المرأة الأولى والأخيرة فى حياتى، فلم أعرف أحدا قبلها ولا بعدها.
ذكرتم فى رسالتكم لطه حسين: لعل خير ما أرد به جميل أستاذى أن أسعى لتحقيق أمانيه، فما تلك الأمانى؟
أمانيه تتمثل فى أن أكون حرا وذا شخصية مستقلة، وأن أحقق للجامعة أكثر ما يمكن من الإنجازات، وقد تحقق كل ذلك فى حياته.
رسالة سليمان لطه
وقد كتب د. سليمان حزين رسالته على العنوان التالى: حضرة صاحب العزة الدكتور طه حسين بك 3 شارع السير مونجفريد بجوار الفنون الجميلة العليا الزمالك القاهرة، أما الرسالة فنصها: لندن 5/2/1945 سيدى الدكتور تحياتى الخالصة وأشواقى.. بل تحياتنا الخالصة وأشواقنا نبعث بها إليكم من انجلترا مرة أخرى فى انتظار العودة واللقاء، وأنتم جميعا من الخير والإسعاد بكل الحب. لابد أن الدكتور ينتظر منى خطابا هذه الأيام. وقد كان ما كان من قرار إعادتى إلى الجامعة، وأرجو ألا يكون الدكتور قد أعار هذا القرار أكثر مما يستحق من أهمية أو شأن، وألا يكون قد خشى أنه ضايقنى بما لا طاقة لى به أو حتى أنه نغص عليّ بما لم أكن أنتظره.
فالحق أنى كنت قد أعددت نفسى لمثل هذا القرار من يوم أن قبلت أن أكون عند رأيكم وحسن ظنكم فى المجيء إلى لندن. وقد كانت لى فى هذا العام ونصف العام تجارب كثيرة أعتقد أننى أفدت منها فى تكوينى الخاص وفى فرصة العمل والخدمة العامة بما لم يكن ليتاح لى مطلقا لو أننى بقيت بالإسكندرية، ولن أندم فى يوم ما على أننى كنت عند توجيه أستاذى أو أننى ثبتُ على هذا التوجيه، فترتب على ذلك ما قد ألقاه من عنت فى الحاضر أو المستقبل. ولكن أنا اخترت لنفسى أن أكون فى مدرسة الدكتور حتى شعر من ناحيته عندما حانت الفرصة أنه يملك أن يوجهنى بكلماته التى لا أنساها «لا تقل شيئا ولا تسأل عن شىء» فإننى أرجو من كل قلبى أن يجدنى أستاذى فى مدرسته وعند حسن توجيهه مهما تتغير الظروف والأحوال. أظن أننى ذكرت للدكتور فى خطاب سابق أننى أفاخر بأننى تعلمت عنه وتربيت على يديه خلال سنوات كثيرة تقارب العشرين.. وأود أن أضيف إلى هذا أمرا آخر.. ذلك أننى أعتقد أن ما تعلمت عن أستاذى خلال هذه الفترة الأخيرة سيبقى معى دائما وسأعتز به دائما، على أن فيه تزكية للنفس وامتحانا لى فيما تعلمت عنكم من قبل.. ولئن أنا كنت قد وفقت فيما ذهبت إليه خلال هذه الأشهر الأخيرة فإننى أرجو أن يرانى أستاذى عند حُسن ظنه فيما قد أكون قادما عليه من امتحان.
لست أدرى كيف تم قرار إعادتى إلى الإسكندرية، ولا ظروف تلك الإعادة.. ولا ما حدا بالوزارة إلى تغيير إدارة المعهد فى هذا الطور الدقيق من حياته، ولما يمض على افتتاح موسم المحاضرات العامة فيه غير شهر واحد.. أهو أمر سياسي؟ أم أن الوزارة رأت أن المعهد كان يعمل على هامش السياسة، أم أن رجال الوزارة لم يعودوا يطيقون أن يوكل أمر المعهد فى إنشائه وإدارته إلى شخص غير وزارى؟ أم أن من اختاره طه حسين لابد أن يذهب ما دام طه حسين قد ذهب؟ أم أن أطماعا شخصية ودسائس فردية قد لعبت فى الموضوع؟ أم أن جامعة فاروق الإسكندرية ورجال جامعة فاروق أنكروا التصرف السابق مهما يكن فيه من خير يفهمونه أو لا يفهمونه؟ أم غير ذلك من سبب أو أسباب ليس لى بها علم وإن كنت أرجح بعضها على بعض؟ على كل حال ليس هذا كله من الأهمية أو الخطر فى كثير أو قليل.. وقد يُسر الدكتور أن يعلم أننى لم أكلف نفسى مشقة التفكير أكثر مما يلزم فى هذه الاحتمالات، وفضلت أن أفسر المسألة على أنها خليط من كل هذه العوامل متضافرة متكاثرة متكالبة فى هذا التضافر والتكاثر تكالبا لابد أن يكشف عن حقيقتها جميعا يوما ما.
إن طه حسين عندما اختار تلميذه لهذا العمل الجديد لم يكن فى الحقيقة مغرضا ولا متميزا، وإن التلميذ عندما بذل من الجهد والنفس كل ما يستطيع لم يكن ساعيا لمجرد إرضاء أستاذه.. وإنما قصد الأستاذ إلى ما توسم أنه الخير أو بعض الخير، وتبعه التلميذ فيما اعتقد أنه طريق الحق وجادة الصواب. ولئن كنت أنا أعرف من الدكتور أنه يكفيه دائما من الحياة ومن الناس والأشياء أنه يسعى إلى الخير، وأنه مهما ينكر الناس ومهما يقابلوا الجميل بالجحود مرة ومرة فإنه يسعى إلى الخير من جديد ومن جديد ومن جديد.. إن كنت أعرف ذلك من الدكتور حق المعرفة فإننى أرجو أن يكون لنفر من تلاميذه بعض ذلك الخلق الذى انفرد به الأستاذ والذى ارتفع به فى أعينهم وسيرتفع على الزمن فوق هامات كثير من الناس. ليطمئن أستاذى إذن إلى أن ما انطوى عليه تصرف الوزارة من عدم لياقة فى المعاملة عندما قررت إعادتى بعد أن فرغت من إعداد المعهد وتبويب مكتبته وتمكين اتصالاته بالهيئات العلمية والجامعية.. بل بعد أن افتتحت موسم الدروس والمحاضرات العامة وأعلنت عن مواعيدها.. بل بعد أن ارتبطت لإلقاء عدد غير قليل من المحاضرات فى بعض الجامعات والهيئات العلمية خارج لندن مما اضطررت إلى إلغائها جميعا فى غير قليل من الخجل والكسوف.. ودون أن أجد لنفسى عذرا مقبولا غير هذه الإعادة التى انتظرتها فى أكتوبر أو نوفمبر، ولكنها وللأسف لم تجئ إلا مع العام الجديد!!، ليطمئن أستاذى إلى أنه مهما ينطوِ عليه تصرف الوزارة معى قبيل الإعادة وبعدها من جحود قد يعرف الدكتور بعض تفاصيله أو لا يعرف، فإن ذلك كله لن يحيد بى عما أخذت عنك من إخلاص للعمل وتفرغ للخدمة سواء فى مصر أو فى الخارج.. وسأجد طريقى إلى العمل والخدمة والإنتاج إن شاء الله فى أى مكان أكون. نحن الآن نستعد للسفر ولا أزال أسعى لأن يكون ذلك بالطائرة على الرغم من صعوبة حجز الأماكن وعدم التصريح عادة بسفر الأطفال بالطائرات.. ويرجع السبب فى رغبتنا فى السفر بالطائرة إلى أن المسافرين بالبحر يجب عليهم القيام بتمرينات للتعود على استخدام قوارب النجاة، فهم يصعدون إلى سطح الباخرة كلما طلب إليهم ذلك، ويتعرضون للهواء البارد فى البحار الشمالية، وقد كان هذا هو السبب فى إصابة عزيزة لدى حضورنا إلى إنجلترا بالتيمونيا فى العام الماضى.. وما زالت عزيزة تعالج من بعض أعقاب التيمونيا حتى الآن، ولذلك إذا لم ننجح فى حجز أماكن بالطائرة والعودة فى فرصة قريبة، فإننا سنضطر بأمر الطبيب إلى تأجيل العودة بالبحر إلى نحو منتصف مارس، أى حتى يدفأ الجو فى البحار الشمالية نوعا ما.
لست أدرى إذا ما كانت عودتى إلى جامعة فاروق أم إلى جامعة فؤاد (القاهرة).. فقد أبلغتنى الوزارة ببرقية أن عودتى ستكون إلى جامعة فاروق.. ولكن انتهى إلى علمى من بعض الإخوان أن هناك مناورة صغيرة يرى أصحابها أن إعادتى إلى جامعة فاروق ورئاسة قسم الجغرافيا هناك لا تعد جزاءً كافيا وإنما الواجب أن تكون إعادتى إلى جامعة فؤاد، وأن ينتقل الأستاذ العدوى إلى الإسكندرية ليكون رئيسا للقسم هناك وليحصل على الأستاذية التى لا يستطيع الحصول عليها فى القاهرة.. مناورة صغيرة كما ذكرت.. ربما كان شفيق بك من أنصار هذا المشروع، فهو خال حرم الأستاذ العدوى.. ولكننى على كل حال أعرف أنى لابد أن أنتظر مثل هذه المناورات الصغيرة التى لن تؤثر فى حياتى العلمية بمعشار ما يتصوره بعض الناس.
عزيزة مبتهجة بالعودة إلى الأهل والوطن وصحتها جيدة جدا والحمد لله، وأرجو ألا ينشغل الدكتور عليها بسبب ما ذكرت عن سفرها، إذ إن ذلك كله فى الحقيقة مجرد حذر واحتياط. أما «كتكوت» ابنه ولا أزال مُصرا على اسمه كذلك!! ففى تقدم مستمر.. وهو الآن يفهم اللغتين ويتكلم بهما ويميز بينهما دون مبالغة!! فهو إذن يبشر بأن يكون «كتكوتا فصيحا»!! ستكون لهذا الحديث بقية وبقية لدى وصولنا واجتماعنا بكم فى أطيب الأوقات إن شاء الله. مع أطيب تحيات عزيزة وتحياتى وكتكوت إليكم جميعا. وإلى اللقاء المخلص سليمان حزين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.