ودّعت جامعة الاسكندرية فى مساء صامت حزين أستاذاً نادراً أحبّ الجميع فأحبه الجميع بلا استثناء. إنه الأستاذ الدكتور عكاشة محمد عبد العال «1950-2014» أستاذ القانون الدولى الخاص بكلية حقوق الاسكندرية. كان الراحل الكبير نموذجاً فريداً من الأساتذة العلماء. قدّم للمكتبة القانونية المصرية والعربية الكثير من المؤلفات والأبحاث وأوراق العمل فى مختلف موضوعات القانون الدولى الخاص. لكنه لم يعش مثل الكثير من الأساتذة فى برج عاجى بل هبط إلى الناس وتواصل مع تلاميذه ومريديه يبسّط لهم أعقد النظريات ويحاورهم ويصاحبهم وأحياناً يبادلهم « القفشات» الذكية الموحية الأوضح دلالة من كثير من النظريات. كان الراحل الكبير متفرداً فى فهمه دور رجل السياسة. لم يمارس السياسة من خلال مناصب رسمية أو حزبية لكنه مارسها فى الواقع بين صفوف الناس فأعطى بأكثر مما أخذ بينما هناك آخرون أخذوا بأكثر مما أعطوا. كان رجلاً «توفيقياً» بكل معنى الكلمة . كان بحق « عمدة» الأساتذة. فكم من مرة يحتدم فيها الخلاف وتتصارع فيها المصالح فى مجلس الكلية أو الجامعة أو غيرها من المجالس فيكون تدخله إيذاناً بنقطة الالتقاء التى يحتكم إليها الجميع. عمل نائباً لرئيس جامعة الاسكندرية فكان يمكث مرابطاً فى مكتبه يعمل أحياناً حتى منتصف الليل. كان باب مكتبه مفتوحا لكل عابر سبيل. فلم نعرف فى تاريخ كلية الحقوق أو تاريخ الجامعة مكتب مسؤول يؤمه يومياً هذا العدد الهائل من الأكاديميين والقضاة والباحثين والزائرين لمجرد الزيارة. كان ينفق من ماله الخاص بسبب متطلبات منصبه العام لأن الكرم لديه كان خصلة ومتعة. وإذا كان هناك فيلسوف يختبئ داخل شخصية كل أستاذ جامعى فإن الفيلسوف القرين لشخصية الدكتور عكاشة عبد العال كان أبسط من ذلك بكثير. كان رجلاً صعيديا ً من أبو تيج أسيوط بكل ما تستدعيه جغرافيا الصعيد من معان وتصورات عن الشهامة والأصالة والوضوح. وكمعظم أبناء الصعيد والريف بموروثهم الثقافى اصطدم الرجل بثقافة وتلون المدينة الكبيرة. كنا نتحاور ذات مساء بيروتى فى لبنان إبان فترة إعارتنا لجامعة بيروت العربية وشاكسته عن فكرة الحلول التوفيقية فحكى لى مقولة سمعها من والده العمدة فى أسيوط أن من يحاول إرضاء كل الأطراف قد ينتهى به الأمر لأن يخسر كل الأطراف ! ولهذا ففى حالات معينة لا بد من الانحياز للطرف صاحب الحق ولو كان الثمن أن نفقد الطرف الآخر. سألته هل ما زال ذلك ممكناً فى هذا الزمان ؟ رد قائلاً يجب أن يكون هذا ممكناً. احترمت واقعيته وتفهمت إجابته. قدر لكثير من المصريين أن يرتحلوا خارج الوطن لأسباب معيشية، كبيرهم وصغيرهم لا يكاد يخرج عن هذه القاعدة. النضال على جبهة كسب العيش.. وجبهة العمل.. وجبهة التفرغ للعلم والفكر.. أعباء ثقيلة يتحملها المصريون برضا بل وحماسة لكنها لا تخلو أحياناً من منغصات. ذات حوار بيننا خارج مصر كنت أقول إننا ونحن فى مصر نشكو صعوبة الحياة باحثين عن فرصة أفضل للعمل فى الخارج. فاذا سافرنا للخارج للعمل فى ظروف أفضل رحنا نتذمر ونتألم من وجع الحنين إلى الوطن ونحسب الأيام انتظاراً للعودة إلى الديار. فرد عليّ بجملة واحدة مستحضراً الآية القرآنية الكريمة «لقد خلقنا الإنسان فى كبد» تعبيراً عن مسيرة الشقاء الإنسانى على الأرض. ومن المفارقة الحزينة أن يرحل هذا الأستاذ الكبير المحبوب بسبب مرض عضال فى الكَبِد. والكَبَد بالتعبير القرآنى هو المعاناة . والكَبِد بالتعبير الطبى هو الجهاز الذى يختزن إفرازات الجسم من السموم ليقوم بتنقيتها. أى مفارقة ! كان الراحل الكبير مثل شجرة ظل وارفة الأغصان طالما لجأ إلى ظلها الكثيرون. يحدث هذا فى زمن يتفرغ فيه الناس لعملهم وحياتهم ويتزايد تيار الانكفاء على الذات والبعد عن متاعب الآخرين. لكن عكاشة عبد العال كان معطاء وهب وقته للآخرين فوهبه الآخرون حبهم. تميّز فى تعامله مع البشر ببساطة قلَّ أن يوجد لها نظير واتسع قلبه لمساحة من الدفء الإنسانى فبدا مثل «البوصلة» التى تضبط باتجاهها أصحاب الحوائج والهموم فبكى عليه فى مرضه الأخير أصغر عمال الجامعة كما بكى عليه أكبر الأساتذة. لم يكن الأستاذ الدكتور عكاشة عبد العال رمزاً أكاديمياً مصرياً فقط بل كان أحد الرموز الأكاديمية المرموقة على المستوى العربي. ولم تكن عمادته لكلية الحقوق جامعة بيروت العربية «1997-2001» ثم عمادته لأكاديمية شرطة دبى «2002-2003» مجرد منصبين عابرين بل ترك فى المؤسستين سيرة عطرة وجيلاً من الخريجين والباحثين العارفين بعلمه بقدر ما ترك بصماته الإنسانية فى المجتمع المحيط به. السؤال الذى يجب طرحه، ليس بحكم الصداقة أو الزمالة ، بل بموجب الأمانة ومسؤولية النقد. أين كانت مؤسسات الدولة وهذا العالم الجليل يعانى المرض على مدى أعوام ؟ حين أطلق الأستاذ فاروق جويدة صرخة استغاثة منذ أيام لإنقاذ الرجل جاءت كلمته وهو يعانى النزع الأخير. لكن ماذا عن صراعه المرير مع المرض خلال العامين الماضيين ؟ نعم قامت جامعة الاسكندرية بواجبها بحكم ما تتيحه القوانين واللوائح وأسهمت بدفع جزء من نفقات العلاج لكنه جزء هزيل مقارنة مع ما تكبده الرجل من سفرات كثيرة إلى فرنسا. هل اصبح قدرنا أن يكون صراعنا ليس فقط مع المرض بل أيضاً مع القوانين واللوائح ميتة القلب قاصرة الوعى ؟ وإذا كان هذا مصير عالم جليل ونموذج مشرف داخل مصر وخارجها، فماذا يا تُرى يحدث مع المرضى من البسطاء والكادحين ؟ لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم