ملمس ورائحة الأوراق القديمة متعة لا يعرفها إلا من يبحث عنها ويغوص فى أعماق المكتبات القديمة بحثاً عن ورقة أو صورة قديمة ليمسح عنها الغبار ويقتنيها،، غبار الزمن والبشر،، غبار الزمن الذى القاها فى مكان مهمل وقديم ربما فى صندوق خشبى مكدس بعدم اكتراث، فى ركن من مكتبة قديمة ذهب صاحبها وأهملها الورثة حتى غطاها التراب وفقدت أهميتها،، وغبار البشر الذين نسوا صاحب هذه الأوراق حتى إنمحى من ذاكرتهم وبالتالى ذاكرة المكان.. حتى يحين الوقت ويمسح أحدهم الغبار عن هذه الأوراق والصور ويشم رائحتها بعمق ليكتشف أنه أمام كنز حقيقى.. كنز من الحكايات والمعلومات عن مكان أو أشخاص ذهبوا وتركوا وراءهم أثراً يدل عليهم. وهذا ما حدث بالفعل حينما عثُر الفنان حسام علوان أحد عاشقى التراث والأوراق والصور القديمة على لوحة غاية فى الروعة عبارة عن نتيجة كانت تُعلق على الحائط ترجع لعام 1896 عليها صورة رائعة الجمال للخديو عباس حلمى الثانى فى صدر شبابه وهو يرتدى ملابسه الرسمية ونياشينه الخديوية، وعلى رأسه الطربوش المصرى داخل إطار بيضاوى وحول الصورة تقويم وشهور السنة وصورة العلم الخديو «الهلال والنجمة فى ذلك الوقت » داخل إطار صغير وفوقه إطار مكتوب فيه باللغة الفرنسية المحلات الكبيرة باسكال وشركاءه فى القاهرة وفى أسفل الصورة إطار آخر مكتوب فيه نفس الكلام باللغة العربية ومضاف اليه اسم «قسطندى ميماراكى وشركاءه وخلفاهم». وهنا يبدو جلياً أن هذه النتيجة كانت من ضمن أدوات الدعاية للمحلات الكبيرة لباسكال وشركاءه والتى يبدو أنها كانت تحت إدارة قسطندى وشركاءه … الى هنا والأمر يبدو عادياً فليس من المستغرب أن تصنع المحلات الكبيرة نتائج العام الجديد للدعاية لمحلاتها ومنتجاتها وعليها صورة الخديو أو الملك أو الحاكم فى ذلك الوقت،، ولكن المفاجأة كانت فى إسم المحلات «باسكال وشركاءه» فهذه المحلات لها حكاية جميلة وقديمة وترجع لعهد الخديو إسماعيل ومن النادر جداً العثور على أى أوراق أو وثائق أو صور تخص هذه المحلات رغم أنها كانت مشهورة فى وقتها،، وفيما يبدو من الحكاية التى سأسردها أنها كانت تبيع كل المنتجات المنزلية من أثاث ومفروشات وفضيات وكريستالات وغيرها من لوازم القصور وبيوتات الباشوات فى ذلك الوقت،، فيبدو أنها كانت محلات تبيع لكبار القوم والباشوات وحتى القصور الخديوية. والحكاية يرويها الدكتور يونان لبيب رزق فيقول إن الخديو إسماعيل كلف ناظر الخاصة الخديوية طه باشا الشمسى عام 1873 بتجهيز قصور أولاده وشراء جهازهم اللازم لإتمام أفراح الأنجال أولاده الأربعة «الأمراء توفيق وحسن وحسين و فاطمة» فظل الرجل يبحث عن أنسب المحلات لتوريد البضاعة اللازمة للحضرة الخديوية و كلف عدة محلات تجارية بتقديم مناقصات لكل ما يلزم من فرش وبياضات ودنتيلات ورياش لجهاز العرائس فوقع اختياره على محل «باسكال» الفرنسى الذى له فرع بالمحروسة لجودة بضاعته ورخص أثمانها ولما عرض الأمر على الخديو إسماعيل سأله باستغراب ألم يتقدم فى هذه المناقصة محل مصرى وطنى مطلقا؟' فكانت إجابة ناظر الخاصة الخديوية الأمين أنه تقدم محل «مدكور» ولكن الأثمان التى عرضها مبالغ فيها لأنها تزيد 25 فى المائة عن أسعار محل «باسكال» وإن كان نوع البضاعة واحدا عند الاثنين. فرد الخديو: خذ كل ما نحن فى حاجة إليه من محل مدكور، ثم أردف: إذا كانت المحال التجارية المصرية لا تنتفع من أفراح أولادي, فمن أفراح من تريد أن تستفيد وتنتفع؟ الله عليك يا خديو مصر.. هكذا تكون الوطنية،، على الرغم من أنه تم اتهامه بالسفه والتبذير لأنه التجأ للأغلى رغم نوعية البضاعة الواحدة إلا أنه كان يطمح من ذلك بمساعدة التجار المصريين وتشجيع التجارة الوطنية. بقى أن أقول إن محلات حسن مدكور التى ورد اسمها فى الحكاية والتى يبدو أنها كانت تنافس باسكال الفرنسى كانت تقع بمنطقة الأزبكية أمام البوستة، وكانت هذه القصة فارقة فى تاريخها فقد إستفادت من شراء الخديو لبضاعته منها وركزت دعايتها فيما بعد على أنهم موردو الحضرة الخديوية الفخيمة مما جعل الباشوات والأمراء وعلية القوم يقبلون على التعامل معهم تشبهاً بالخديو، وقد إستغل مدكور ذلك وطبع فى أوراق دعايته شعار الخديوية وأشار أن محلاته هى التى تقوم بتوريد اللوازم لقصور الخديو، وأن متاجره تبيع جميع أنواع البياضات والأقمشة والفرش من حرير وبضائع هندية وملبوسات وسجاجيد عجمى وأبسطة ومشمع أرض وجميع أصناف الصينى والموبيليا والبنور والزجاج والمعادن «كريستوفل» وإنجليزى ولوازم المطابخ ومرشح مياه «باستور» الشهير ونجف ولمبات وساعات وورد صناعى. الجدير بالذكر أن أفراح الأنجال هو التعبير الذى أطلق على حفلات زفاف أنجال الخديو إسماعيل والتى تمت سنة 1873 واستمرت 40 يوما متتالية بمعدل 10 أيام لكل أمير. وقد كان لحفلات الأفراح فى ذلك العصر بهجة بالغة مما جعلها أحاديث الناس، وفيها تزوج ولى عهده محمد توفيق باشا «الخديو توفيق فيما بعد» الأميرة أمينة هانم «أم المحسنين» كريمة إلهامى باشا ابن عباس الأول، والأمير حسين «السلطان حسين فيما بعد» الأميرة عين الحياة بنت الأمير أحمد رفعت بن إبراهيم باشا، والأمير حسن باشا الأميرة خديجة هانم بنت الأمير محمد على الصغير بن محمد على باشا، وكان الفرح الرابع للأميرة فاطمة وكان الأحتفال بزواجهم أعظم أفراح هذا العصر ظل الشعب يتحاكى بها فترة طويلة من الزمن وشارك فيها عدد كبير من المطربين والحواة ولاعبو الأكروبات وشهدت فيها القاهرة أجمل لياليها وأيامها، والله على مصر وحكاياتها وأفراحها ومحلاتها زمان.