وثيقة هذا الأسبوع قد تبدو غريبة ولكنها فى الحقيقة تحكى حكاية جميلة تضرب بها أروع مثال على تشجيع الحاكم المستنير للاقتصاد الوطني وتجارة أولاد البلد (المصريين) فى مواجهة طوفان وطغيان واحتكار الأجانب لتجارة واقتصاد مصر المحروسة زمان ... وهى عباره عن كارت دعاية لأحد المحلات هو محلات « مدكور «حجمه لا يزيد على كف اليد ولكنه يحكى قصة رائعة عن الخديو إسماعيل ذلك الحاكم الذى اختلف حوله المؤرخون، فمنهم من إتهمه بالسفه والبذخ وحمله مسئولية التدخل الأجنبي فى مصر بسبب استدانته مبالغ ضخمة كبلت الاقتصاد المصرى والبعض الآخر يصفه بباعث نهضة مصر الحديثة وصاحب البنية التحتية التى نعيش عليها حتى الآن من كهرباء ومياه ومبان فخمة وكباري ومشاريع حيوية نقلت مصر من تصنيف الدول المتخلفة الى مصاف الدول الراقية والحديثة 0 والوثيقة هى نوع من أنواع الدعاية لمحلات حسن مدكور التى كانت تقع بالأزبكية أمام البوستة بمصر - وهذا هو عنوانها- ورقم تليفون هذا المتجر 529 مما يعنى أنه من المتاجر الهامة التى أدخلت الخدمة التليفونية منذ بدايتها ، والكارت مكتوب باللغتين الفرنسية والإنجليزية بجانب العربية مما يعنى أن أغلب زبائنه من الأجانب الذين كانوا يملأون مصر أو من الباشوات أو علية القوم ، وفى صدر الوثيقة شعار الخديوية وإشارة أن هذه المحلات هى التى تقوم بتوريد اللوازم لقصور الحضرة الخديوية ، وأن هذه المتاجر تبيع كافة أنواع البياضات والأقمشة والفرش من حرير وبضائع هندية وملبوسات وسجاجيد عجمى وأبسطة ( أفرنكى ) أفرنجى ومشمع أرض وجميع أصناف الصيني والموبيليا والبنور والزجاج والمعادن ( كريستوفل ) وإنجليزي ولوازم المطابخ ومرشح مياه ( باستور ) الشهير ونجف ولمبات وساعات وورد صناعى ومستعدين كذلك للتصدير والأثمان أقل بكثير من المحلات التجارية الأخرى .
ومن هذه الوثيقة يتضح أن محلات مدكور هذه كانت متاجر ضخمة تبيع كل المنتجات ولوازم البيوت العصرية ولها قصه سمعها كل سكان المحروسة عام 1873 مما تسبب فى شهرتها وفتح أمام اصحابها أبواب السعد والثراء وجعلهم موردى الحضرة الخديوية . وحكاية هذه المحلات رواها الدكتور يونان لبيب رزق فقال إن الخديو إسماعيل كلف ناظر الخاصة الخديوية طه باشا الشمسى فى ذلك الوقت بتجهيز قصور أولاده وشراء جهازهم اللازم لإتمام أفراح الأنجال ( الأمراء توفيق وحسن وحسين و فاطمة ) فظل الرجل يبحث عن أنسب المحلات لتوريد البضاعة اللازمة للحضرة الخديوية و كلف عدة محلات تجارية بتقديم مناقصات لكل ما يلزم من فرش وبياضات ودنتيلات ورياش لجهاز العرائس فوقع اختياره علي محل' باسكال' الفرنسي الذى له فرع بالمحروسة لجودة بضاعته ورخص أثمانها. ولما عرض الأمر علي الخديو إسماعيل سأله باستغراب ' ألم يتقدم في هذه المناقصة محل مصري وطني مطلقا؟' فكانت إجابة ناظر الخاصة الأمين أنه تقدم محل « مدكور « ولكن الأثمان التي عرضها مبالغ فيها لأنها تزيد25 في المئة علي أسعار محل « باسكال « وإن كان نوع البضاعة واحد عند الاثنين. فرد الخديو: خذ كل ما نحن في حاجة إليه من محل مدكور ، ثم أردف: إذا كانت المحال التجارية المصرية لا تنتفع من أفراح أولادي , فمن أفراح من تريد أن تستفيد وتنتفع؟ هذه القصة تداولها المؤرخون كثيراً بعضهم إستغلها للتدليل على سفه هذا الخديو والآخرون أكدوا أنها تدل على وطنيته وعشقه للمصريين ، وفى كل الأحوال تمت الصفقة التى يقال فى بعض المراجع إن المحل المصرى إستغلها فرصة لزيادة أسعاره ووضع شعار الخديوية على دعايته مما زاد من صيته وأصبح فيما بعد الهدف الرئيسي للأثرياء الذين يبحثون عن تجهيز منازلهم تأسياً بالخديو. الجدير بالذكر أن أفراح الأنجال هو التعبير الذى أطلق على حفلات زفاف أنجال الخديو إسماعيل والتى تمت سنة 1873 واستمرت 40 يوما متتالية بمعدل 10 أيام لكل أمير 0 وقد كان لحفلات الأفراح في ذلك العصر يهجة بالغة ، فقد كان السراة والأعيان يتنافسون في تفخيمها وتعظيمها ، وبلغت بعض هذه الأفراح من البهاء والروعة ما جعلها أحاديث الناس ، أما أفراح الخديو إسماعيل فحدث عنها ولا حرج ، وخاصة الأفراح التي أقامها احتفالاً بزواج أنجاله الأمراء ، إذ عقد لولي عهده محمد توفيق باشا ( الخديو فيما بعد ) على الأميرة أمينة هانم ( أم المحسنين ) كريمة إلهامي باشا ابن عباس الأول ، وللأمير حسين ( السلطان حسين فيما بعد) على الأميرة عين الحياة بنت الأمير أحمد رفعت بن إبراهيم باشا ، والأمير حسن باشا على الأميرة خديجة هانم بنت الأمير محمد على الصغير بن محمد على باشا ، وكان الاحتفال بزواجهم أعظم أفراح هذا العصر ، ولا يزال الناس فى مصر وأنحاء العالم يذكرون فخامة هذه الأفراح التى سجلتها ورسمتها ونشرت عنها الكثير من الجرائد الانجليزية والفرنسية فى ذلك الوقت . ويقال إن البذخ الذى شهدته هذه الاحتفالات بالملايين ساعد على إثقال الخزانة المصرية بالمزيد من الديون . ويوجد حتى الآن شارع بالقاهرة اسمه « شارع افراح الأنجال « تخليدا لهذا اليوم . الله على مصر و حكايات مصر أيام زمان .