«لنعلنها بوضوح: لم يعد مقبولا السكوت على خطاب التمييز والكراهية، وأن إقامة العدل والحفاظ على الأمن والسلم تأتى على رأس مقاصد ديننا الحنيف». بهذه الكلمات الواضحة خاطب الرئيس عبد الفتاح السيسى العالم من خلال كلمته امام القمة الإسلامية فى مكةالمكرمة فى الأول من يونيو الحالي. وأكد الرئيس أن ظاهرة الإرهاب تأتى على رأس التحديات التى تواجه العالم الإسلامى والإنسانية، مشيرا الى ان مصر بادرت منذ سنوات طويلة بإطلاق الدعوة لتكثيف الجهود المشتركة للقضاء على هذه الظاهرة بشكل كامل، ورفض محاولات ربطها بدين أو ثقافة أو عرق معين. ودعا الرئيس الدول الإسلامية الى التوحد فى مواجهة موجة غير مسبوقة من عدم الاستقرار والتوتر السياسى والأمنى تجتاح عالمنا الإسلامي، وتهدد بتقويض دوله ومؤسساته من جذورها وتحويله من فضاء رحب للتعاون والتكاتف لتحقيق مصلحة الشعوب، الى ساحة استقطاب وتنابذ ومصدر للإساءة لصورة ديننا ومجتمعاتنا، وأضاف الرئيس أن ظاهرة الإرهاب وما يواكبها من تطرف دينى وانتشار لخطاب الكراهية والتمييز، تأتى على رأس التحديات التى تواجه عالمنا الإسلامي، بل والإنسانية جمعاء، وأن الأمر يتطلب التكاتف لتفعيل الأطر الإقليمية والدولية لمكافحة الفكر المتطرف. وقال إن علينا مهمة مزدوجة، فبالإضافة الى مكافحة الفكر المتطرف والاتجار بالدين وتشويه صورته، فان هناك جهدا موازيا لمكافحة ظاهرة الاسلاموفوبيا والتمييز ضد المسلمين ونشر خطاب الكراهية ضدهم. ودون مواربة قال الرئيس: «لم يعد مقبولا السكوت على خطاب التمييز والكراهية ضد العرب والمسلمين، ومحاولة إلصاق تهمة الإرهاب والتطرف بديننا الحنيف والذى هو منها بريء». وبهذه الكلمات القاطعة والحاسمة، وضع الرئيس مسئولية قيادة العالم العربى والإسلامى للقضاء على التمييز فى يد مصر، وهو دور طبيعى لدولة كان التنوير ثقافتها منذ فجر الانسانية، وكانت قبلة الساعين للإبداع فى العلم والفن والأدب. تأتى كلمات الرئيس امتدادا لفكر بدأ بالدعوة لتجديد الفكر الدينى ودعوة لتحديث التعليم، والتزاما بالقضاء على كل أشكال التمييز منها التمييز ضد النساء. وتباينت القدرة على الاستجابة لهذا الفكر وهذه الدعوات. فبينما لم نحقق الطفرة المأمولة فى تجديد الفكر الديني، او اصلاح التعليم، حققت نساء مصر نجاحا باهرا فى القضاء على بعض أشكال التمييز فى المجال العام. وارتفع عدد الوزيرات الى رقم غير مسبوق وارتفع تمثيل النساء فى مجلس النواب الى ما يقارب 15%. وكان من الطبيعى أن يباهى الرئيس السيسى فى كلمته بإنجازات القضاء على التمييز ضد المرأة ويدعو مستمعيه فى قمة مكة الى محاكاة التجربة المصرية. ولا جدال ان التزام الرئيس بتمكين النساء تحول الى عقيدة ثابتة لا تتزحزح، تبشر النساء بالمزيد. واكتملت منظومة القضاء على التمييز بفضل شجاعة ووطنية البطل الحقيقي، نساء مصر وبكل ثقة أقول إنه لا عودة للوراء. ومن الانصاف أيضا أن نقول إن المجلس القومى للمرأة قد لعب دورا عظيما كمؤسسة وطنية واستمرت قياداته واعية، مخلصة لقضيتها. وهذا ينقلنى للحديث عن أهمية دور المؤسسات الوطنية المستقلة. ومما لا شك فيه أن إنشاء آلية وطنية مستقلة للقضاء على التمييز، امر لا بد منه إن اردنا التحرك الى الامام وإحراز النتائج، اننا نحتاج الى آلية، تتمتع بالصلاحيات، توكل اليها مهمة تنسيق الجهود ووضع خطط العمل ووضع قاعدة للبيانات وحشد الموارد المالية والبشرية والمؤسسية، وبناء القدرات وبناء الشراكات والتحالفات على المستوى الوطنى والدولى ، ويسند إليها رصد التنفيذ وإجراء المراجعات وإعادة التقييم. نحتاج آلية تتولى رفع الوعى بمضار التمييز وخلق الثقافة الداعمة للقضاء عليه هو امر حيوى لتحقيق النجاح فى تحقيق الأهداف المرجوة. والنجاح ممكن رغم صعوبة القضاء على التمييز والذى تحول الى موروثات استقرت فى وجدان البعض لعقود طويلة. ومما يدفعنا الى التفاؤل بتحقيق تقدم، ان الدستور المصرى جاء قاطعا جامعا شاملا فى تناوله قضية عدم التمييز. حيث ينص فى مادته رقم 53 على إرساء الحق فى المساواة، وجرم التمييز واعتبره والتحريض عليه جريمة يعاقب عليها القانون فى صياغة واضحة لا لبس فيها: المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز، بينهم بسبب الدين، او العقيدة، او الجنس، او الأصل، او العرق او اللون، او اللغة، أو الإعاقة، او المستوى الاجتماعى، او الانتماء السياسى او الجغرافي، او لأى سبب آخر. كما ينص على أن التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون: وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على جميع اشكال التمييز، وينظم القانون انشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض. وتوفر هذه المادة الأساس القانونى لعمل المفوضية المستقلة للقضاء على التمييز، مثلما ترسم كلمات الرئيس فى مكة خطة عملها، سواء على المستوى الوطنى حيث ينبغى ان تبدأ المهمة، آو على المستويين الإقليمى والدولى من خلال التعاون الدولى وتبادل المعلومات والخبرات. وبموافقة الشعب المصرى منذ شهرين، وعلى تعديلات مهمة للدستور، تصبح الأولوية هى عملية تدعيم مؤسسات الدولة وإصدار القوانين المكملة للدستور.. وليس هناك اهم من المؤسسات التى تهتم بإرساء اركان العدل والمساواة. ويتفق خبراء حقوق الإنسان على ان الحق فى عدم التمييز يأتى على قمة الأسس والدعائم التى تقوم عليها دساتير الدول المدنية الحديثة. وأتصور ان تحقيق هذه الرؤية يفرض ان تبدأ المفوضية بوضع خطة وطنية للقضاء على أسباب التمييز والتطرف والإقصاء والاستعلاء، ونبذ الكراهية. وتكون البداية، على سبيل المثال وليس الحصر، بتوجيه عناية خاصة للارتقاء بجودة الخدمات المقدمة للفئات المحرومة والمهمشة، ودعم شعورها بالانتماء، وزيادة مشاركتها فى اتخاذ القرارات المؤثرة على حياتها وتوسيع الخيارات المتاحة امامها بالارتقاء بجودة الخدمات التعليمية والصحية والحماية الاجتماعية المقدمة اليها..واتصور ان يكون فى مقدمة الأهداف التى تسعى الخطة لتحقيقها، استعادة الثقافة المصرية الاصيلة التى تستمد قوتها وصلابتها ومرونتها من تاريخ حافل بالتعددية الثقافية والدينية، ثقافة تحترم القيم السامية المشتركة، وتسعى للتواصل وبناء جسور التفاهم مع الآخر، وكلها روافد تكون محورا مهما لعمل المفوضية. ويكون التركيز على بناء الانسان المصرى وإشاعة مناخ من التفاؤل والرغبة فى التقدم والانفتاح على العالم، والى جانب ذلك يتم التحرك على المستوى الدولى والإقليمي، من خلال دور مصرى نشيط يستثمر قوته الناعمة، فى تعظيم نقاط التلاقى مع الحضارات والثقافات والأديان التى تنبض بالحياة لدى شعوب نعرفها واخرى لا نعرفها، لنشر ثقافة السلام والعدل والتوعية بقيمة التعاون والتفاهم بين الثقافات والأديان. ويتم التمهيد لذلك بقيام المفوضية المستقلة للقضاء على التمييز بالتعاون مع الجهات المعنية من اجل وضع خطة عمل مفصلة تشارك فيها مختلف أجهزة الدولة وتبدأ بإعداد الطفل والنشء وتنقية المناهج المدرسية وطرق التدريس من أى إشارات او تفسيرات تحض على التمييز او الكراهية، ويلعب الشباب دورا فاعلا لزيادة حيوية التعاون، تعتمد الخطة تدريب العاملين بأجهزة العبادة والإعلام والمؤسسات التعليمية ومختلف المؤسسات الخدمية بالدولة المصرية. وتقوم المفوضية بحشد الموارد المالية والبشرية والمؤسسية اللازمة للتنفيذ. وعلى المستوى الإقليمى والدولى تضع المفوضية خطة عمل للمهنيين مقدمى الخدمة، تركز على بناء القدرات كى تترجم على ارض الواقع المسئولية التاريخية التى تتحملها مصر فى القضاء على التمييز والحض على الكراهية على مستوى العالم، والاهتمام ببناء الانسان ونشر ثقافة السلام والمساواة والعدل وتحقيق التنمية المستدامة ومكافحة التطرف والإرهاب. وهذا هو الدور الذى ينتظره العالم من ارض الكنانة، ولا نملك رفاهة الانتظار. لمزيد من مقالات ◀ سفيرة د. مشيرة خطاب