لماذا الوعي؟ لأنه موضوع مُهمل فى أغلب المشاريع الفلسفية للإصلاح فى الفكر المصرى الحديث، على الرغم من أن الوعى هو على أهم أولويات أجندة الفلاسفة فى الغرب، لدرجة أننى أشعر أحيانا أننا فى غيبوبة، أو مثل الزومبى «الموتى الأحياء». إن الوعى الحقيقى هو الرافعة الفعالة للشعوب، وهو الفاصل بين التأخر والتقدم، مثلما أن الوعى هو الذى يميز الأحياء عن الأموات وعن الموتى الأحياء! ولا شيء يمكن أن يحدث فى حياتنا تجاه التقدم دون وجود حالة من الوعى الحقيقى لا الزائف. فالوعى هو الذى يحرك السلوك أيا كان، مثلما يجعلك تحرك يدك عندما تريد ذلك إما لمعاونة عاجز أو لاغتصاب ما لا يحق لك، أو مثلما يجعلك تتصرف طبقا لمفهوم الواجب أو طبقا لمبدأ الانتهازية. فالوعى هو الذى يجعلنا نسلك سلوكا حضاريا أو جاهليا، ونتصرف بتسامح أو بتعصب، وما الفارق بين هذه وتلك إلا الفارق بين الوعى الحقيقى أو الوعى الزائف.والوعى هو الذى يجعلنا نبنى قصورا من الرمال أو قصورا من التقدم. وما الفارق بين هذه وتلك إلا الفارق بين المعارك الحقيقية والمعارك الزائفة. ما طبيعة الوعي؟ الوعى له تعريفات كثيرة فى الفلسفة والعلوم المختلفة، وربما لو سألت الفلاسفة كلهم عن الوعي، فلن تجد له تعريفا واحدا، وسوف تجد جدلا لا ينتهى حول ماهية الوعي. ولا يعنينى هنا كل تلك التعريفات سواء عند الفلاسفة أو العلماء فى العلوم الإنسانية والاجتماعية. وسوف أستخدم الوعى بطريقة إجرائية تمكننا من تحديد دوائر الوعي، وبالتالى يمكن التعامل العملى معه؛ لأن التعامل النظرى المفرط للوصول إلى الماهية الميتافيزيقية يعطلنا كثيرا عن الإنجاز على أرض الواقع، وربما نقع فى ترف عقلى لا قيمة له. ويمكن القول إن الوعى يضم كل تلك الحالات والجوانب غير الجسدية فى الإنسان، فالوعى هو التيار العام لحالات الإدراك أو الإحساس أو الشعور أو التفكير أو الأفكار أو المفاهيم، كما هو القبة التى تحيط بعمليات التعبير واللغة والتخيل والذاكرة والتقدير وطريقة الحكم على الأشياء والتمييز، وفيه تتم معالجة الانفعالات والمشاعر والموجهات النفسية والمدركات العقلية التى يعمل الإنسان ويتصرف بناء عليها، سواء كان وعيا علميا أو وعيا زائفا. وهذا الوعى يتأثر بطبيعة الحال بالعقل الباطن أو العقل اللاواعى. والوعى أعم من العقل؛لأنه يحتوى كل حالات الشعور، سواء كانت نظرية أو عملية وسواء كانت ذهنية أو تخيلية أو تذكرا أو تفكيرا استنباطيا أو استدلاليا، وسواء متعمدة أو عفوية. ويشمل العقل النظرى والعقل العملي، والحدس والوجدان والذاكرة والتأمل، وهو إدراك للذات والأشياء فى ديمومتها. وهو تيار متدفق مفتوح على الزمان:الحاضر والماضى والمستقبل. والوعى يحدد طريقة إدراك العالم والآخرين، ويحدد العلاقة بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والعالم والآخرين؛ والوعى هو الذى يحدد أيضا درجة الشعور بالواجب والمسئولية، والتمييز بين الجمال والقبح، وإدراك طبيعة وحدود قدراتنا، وتحديد الطريق الموصل إلى الأهداف... إلخ. والوعى غير المعرفة لأنه يمكن أن يكون عندك معارف لكنك لا تستطيع أن تترجمها إلى وعي، مثل الهارد ديسك، به معلومات لكن لا يستطيع أن يصنع منها تقدير موقف، وهذا قد يحدث مع أى منا فى بعض اللحظات أو أغلبها أو كلها! ويمكن أن أضرب لك مثلا على ذلك بالمعلومات التى كانت عند أمريكا عن كل التحركات المصرية قبل حرب أكتوبر، لكنها لم تستطع أن تفسر تلك المعلومات تفسيرا صحيحا لأنه كان يسيطر عليها وعى زائف محكوم بآراء مسبقة؛ فهى تملك المعرفة لكنها لا تملك الوعى الحقيقى بالمعرفة. كما أن السادات استطاع أن يقوم بتحركات صنعت سحابة دخان أدت إلى إرباك المدركات عند المحللين وأوقعتهم فى سوء تفسير المعلومات، وتسببت فى عمى استراتيجى عند أمريكا وإسرائيل. ولذا قال هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق إبان حرب أكتوبر فى كتابه «سنوات القلاقل» :إن الهجوم المصرى السورى كان مفاجأة استراتيجية وتكتيكية كلاسيكية, نشأت عن سوء تفسير الحقائق التى كان متاحا للجميع أن يروها. والوعى غير الدماغ، ولا يمكن اختزاله وتحديده على أنه المخ، كما أنه ليس مجموعة من الظواهر الفيزيائية أو العصبية، ولا يمكن أن يتم صناعة آلة تملك الوعى الذاتى الذى يملكه الإنسان العاقل. فالوعى ينتمى إلى الروح والأبدية على الرغم من أنه يعيش فى الجسد ويتأثر به، وعلى الرغم من أنه يتأثر بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية وعلاقات الإنتاج، وعلى الرغم من أنه يتأثر باللاشعور. إذن يشمل الوعى كل تلك الدوائر، لكنك لا تستطيع أن تختزله فى أى منها، فمنها ما ينتمى إلى العقل أو الوجدان أو الغريزة أو النفس، ولذا فالوعى هو تيار أو مجال عام أو سحابة أو قبة تعلو تلك العناصر أو الملكات، قل ما شئت، لكن لا يمكنك إنكار الوعي. ومع أن الوعى لا تزال ماهيته غامضة لا تثير الجدال فقط بين الفلاسفة، بل تثير الجدال أيضا بين العلماء, فإن العناصر المؤثرة فى الوعى يمكن تفكيكها والتعامل معها ومعالجتها وإعادة تشكيلها من أجل التحول نحو الوعى الحقيقى الذى يصنع التقدم. وهذا ما يجب أن نقوم به مع الوعى المصرى الذى حان وقت إعادة تشكيله. ومن ثم يجب أن نرسم طريقة عمل لإصلاح العناصر المؤثرة فى الوعي. لمزيد من مقالات د. محمد عثمان الخشت