قد كنت أنكر قبل اليوم صاحبي.. إذا لم يكن دينه لدينى داني، لقد صار قلبى قابلا كل صورة.. فمرعى لغزلان ودير لرهبان، وبيت لأوثانى وكعب طائف.. وألواح توراة ومصحف وقرآن، أدين بدين الحب أن توجهت.. ركائبه فالحب دينى وإيماني. فى هذه الأبيات تتلخص الرحلة، فكل منا يقوم بعمل مراجعات لمحطات حياته خلال رحلة العمر وتأتى مناسبات أو أوقات بعينها، يحس أنه من الواجب أن يفسح لنفسه فرصة للتأمل فى مغزى حياته، ولأى درجة وصل فى سلم السعادة، لعله يكتشف منهجا مغايرا، يحقق له حالة أكمل مما هو عليها!.. وفى هذه الأبيات منذ عرفتها وفهمتها إلا ويزداد تمسكى بها فى كل محطة أكثر مما قبلها، ففيها اكتشفت الراحة النفسية للتعامل مع الآخرين، وأعتبرها قاعدة التواصل بين الناس، ولو آمن بها كل الناس لصلحت كل المجتمعات، وأعتقد أن من نجح فى تعميمها فى الحضارة الغربية، من منطلقات فلسفية مختلفة، توصل إلى أغلى ما يملكون من السلم الأهلي، بعد أن فقدت أوروبا أكثر من 4% من سكانها من جراء الحروب الدينية فى العصور الوسطي. معرفة الله, جوهر الوجود, بداية كل إنسان للوصول للسعادة، والأديان والفلسفات محور اهتمامها تقديم نظرية وجودية للناس، ينطلقون منها فى الحياة، وهذه النظرية تختلف من فرد لآخر حسب قواه ومدركاته الحسية والعقلية، حتى عند أصحاب نفس العقيدة ونفس الفكرة، إلا أن معرفة الله جل جلاله تؤدى إلى نظرية أخلاقية تحقق لهم الغرض من الحياة بالوصول للسعادة. واصطلح الفلاسفة على تعريف السعادة بأنها تحقيق اللذة لأقصى درجة، وتخفيض الألم لأقل درجة، وقد جعل الفيلسوف الهولندى (باروخ إسبينوزا) الشعور بالسعادة ليس جزءا من الفضيلة الأخلاقية، بل هو الفضيلة بعينها، وبعد جهد عقلانى من خلال التعريفات الرياضية الهندسية، توصل إلى أن تنظيم الإنسان حياته العقلانية هى السبيل للوصول للسعادة، فالعقلانية هى هدف الحياة والوسيلة فى نفس الوقت، لتحقيق السعادة فلا سعادة متحققة دون إصلاح العقل. إصلاح العقل فى رأيه مرتبط بفهم القانون الطبيعى الذى يحكم كل الكائنات، فلكل كائن قانون إلهى مطلق يحكمه، لا يستطيع تغييره أو التحكم فيه، فهو محكوم به، ولا مجال لخرق قوانين الطبيعة الحاكمة، والإنسان من هذه الكائنات، إلا أنه يتميز بالعقل والإرادة، وأعتقد أن هذه الفكرة فطرية لكل عقل مفكر، ففى طفولتى أراد والدى أن يستثمر الإجازة الصيفية، بتقويتى فى القراءة والكتابة، فأحضر معلما لتدريبي، فسألنى أكملى هذه الجملة: الأسد حيوان..، أليف أم مفترس، فأجبته بعد تفكير: أليف، فضج ضاحكا إنه مفترس، فأجبته لقد خلقه الله هكذا، وهذه طبيعته فليس شريرا، لأنه لا يأكل إلا إذا جاع، فأجاب دى فلسفة ثانية! البراءة تملك حقائق مدهشة! أعتقد أن هذا الحكم الفطرى كان إسبينوزيا، الذى يفهم طبيعة الأشياء ليحكم عليها! فقد قام (إسبينوزا) بفهم القانون الطبيعى الخالد، الذى يحكم الكون وفهم العلاقة بين ذهن الإنسان وطبيعة جسده ليتوصل لنظرية فى المعرفة والأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي، من خلال التعريفات والنتائج، وأهمها أن الإنسان لن يصل للسعادة إلا بإعمال عقله، والسيطرة على نفسه قبل الآخرين، وأن هناك لذات عقلية مرتبطة بالأخلاق النبيلة كفيلة بتحقيق السعادة الحقيقية أعمق من كل اللذات المادية، وهى من طبيعة الإنسان وليست أفكارا فوقية مفروضة عليه، بالتحكم فى الشهوات والعواطف الدليل (الإسبينوزي) للسعادة. لقد أفادتنى هذه الفكرة فى التصالح مع الناس وتقدير ظروفهم الحاكمة فألتمس الأعذار لا يكلف صاحبها عناء تقديمها لمثالبهم الشخصية فدائما ما أرجعها للضعف الإنساني، وقصور القوى العقلية، إلا إننى لم أصل بعد لتسويغ الخيانة وعض اليد التى امتدت بالخيرات، فهذه المرتبة النبيلة من السماحة والغفران، أتمنى أن أصل لها فى محطة يكتبها لى الله فى الحياة، لأن معناها الوصول لمرتبة عليا من «السعادة» فالخصال النبيلة والمعانى السامية التى يمارسها الإنسان هى فائض سعادته الشخصية، فعلى قدر نعمة السعادة التى وضعها القانون الإلهى داخل نفسه، بقدر ما يفيض نبلا ومحبة، وصدق رسول الله إذ قال: رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضي، شتان بين السماحة والتسامح، فالأولى نتاج المحبة والثانية اضطرارية تفتقر للحب!. إعمال العقل وتطوير الذات هى الحرية الوحيدة المكفولة للإنسان، فكنت أظن أنى حرة ولكن اكتشفت أن القيود التى تحكمنى أقوى من ادعائى فالقانون الكونى الطبيعي، والبناء الاجتماعى التاريخي، لا يعطى إلا هامشا ضيقا من الحرية، ينتزعها العقل بتفعيل ملكاته، لاقتناص قدر من السعادة، فلسنا إلا حجرا مقذوفا فى الفضاء يظن أنه يتحرك ويهوى بمحض إرادته!. خلاصة الرحلة فى الحياة أن دين الحب ليس فكرة خيالية ولكنها تجريبية، تقوم على القانون الطبيعى الإلهي، وهى جوهر السعادة للفرد فالمجتمع، فالدولة الحاضنة للجميع!. لمزيد من مقالات وفاء محمود