بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود على إضراب المواطنات السويسريات الأول فى الرابع عشر من يونيو 1991، تُعيد النساء الكرة برفع رايات الغضب وإعلان نفاد صبرهن حيال التفاوت الذى يعانين منه حتى يومنا هذا، لاسيما فيما يتعلق بالأجور حيث رواتب النساء أقل بنحو 20% من رواتب الرجال فى القطاع الخاص مقارنة ب 16% فى القطاع العام، وهو ما يمثل خسارة شهرية تقدر بنحو 600 فرنك فى المتوسط لكل امرأة سويسرية مقارنة بمثيلها الذكر، فضلًا عن صعوبة اختراقهن لسوق العمل، وندرة تصعيدهن للمناصب الإدارية العليا أو ترشيحهن للدورات المهنية، وظروف العمل غير العادلة التى قادتهن إلى قبول العمل بدوام مؤقت أو جزئى . وتتسع أهداف الإضراب لدى الناشطات الحالمات لإعلان مناهضة تدمير الكوكب والتلوث والتصنيع الاستهلاكى والحروب والجوع واستعباد البشر. يأتى الإضراب تحت عنوان (مساواة- احترام- تضامن) بعد مرور أشهر قليلة على إعلان نتائج الانتخابات الفيدرالية التى جرت فى سويسرا فى نهاية العام المنصرم، وهو ما يضع إضراب النساء، المقرر إنجازه يوم الجمعة الرابع عشر من يونيو، على أجندة أبرز الأحداث فى ذلك البلد الهادئ المشهور بالحياد واقتصاد البنوك وصناعة الشيكولاتة والجبن. اللافت للنظر تراوح ردود فعل ثلاثة من العضوات المنتخبات تجاه الإضراب الذى ترددت الدعوة له على مدى السنوات الماضية، ففى الوقت الذى تحفظت فيه «فيولا أمهير» معلنة تأجيل مناقشة الموضوع، وامتنعت فيه «كيلر سوتر» عن الرد، أعلنت «سيمونيتا سوماروجا» والتى شاركت فى الإضراب الأول- دعمها للإضراب لخلخلة الأوضاع الجامدة، التى يعرفها الجميع بالأرقام. فى الوقت نفسه، يتفاوت قبول الإضراب قانونيا بين المقاطعات السويسرية، حيث يعتبرها البعض توقفًا عن العمل كما فى إقليم جورا، أو يتقبلها بمنح إجازة غير مدفوعة الأجر كما فى إقليمى فوو وجنيف، أو يقف فى جانب المساندة مع مراعاة حاجة العمل، كما فى برن وفريبورج وفاليه.. من جهة أخرى، طالب منظمو الإضراب بوقف الدراسة أو تعديل مواعيد الامتحانات لدعم الطالبات المشاركات، كما تم وضع البدائل للعاملات فى المقاطعات المتحفظة بالدعوة لمنحهن فترات غذاء طويلة نسبيا، ودعوتهن لارتداء اللون البنفسجى أو التزين بدبوس يحمل الشعار أو رفع علم الإضراب على نافذة أو سيارة أو دراجة، أو إطلاق صفارة فى وقت متفق عليه. من جهة أخرى، أعلن ناشطون رجالا تطوعهم للمشاركة فى رعاية الأطفال أو القيام بالأعمال المنزلية، بعد تحفظ كثيرات على خروجهم فى المسيرات حتى لا يكون ظهورهم استعراضيًا أمام الكاميرات وكانت الدعوة للإضراب قد تبلورت فى العاصمة السويسرية «برن» فى 23 سبتمبر الماضى إثر مظاهرة حاشدة ضمت نحو 20 ألف من المشاركين بناء على دعوة من «يونيا» نقابة العمال السويسرية الأوسع انتشارًا؛ لرفض فضيحة التفاوت فى الأجور، وهو ما تسعى النقابة لتصحيحه، جنبًا إلى جنب مع تحديد الحد الأدنى للأجور، والحفاظ على حقوق العمال المادية والمعنوية. كما شهد اليوم العالمى للمرأة فى الثامن من مارس الماضى، وعيد العمال فى الأول من مايو المنصرم فى أنحاء البلاد مناقشات ومسيرات تحضيرية لمخاطبة جهات العمل الخاصة والحكومية فضلًا عن المؤسسات التعليمية لدعم الإضراب، الذى أكد منظموه كونه لا ينطلق من حدود الصفة البيولوجية، ولكنه يستخدمها باعتبارها هوية نضالية وكتلة سياسية ضد الظلم والاستغلال، على أن يكون يوم الإضراب بداية لجولة جديدة من أجل المساواة المنشودة. أمس واليوم عانت السويسريات الكثير فى مجتمعهن المحافظ حتى حصلن على أبسط حقوقهن قبل عقود قليلة حيث كان السماح للنساء بالعمل مَقروناً بموافقة الأب أو الزوج، كما لم يحصلن على حق الانتخاب والتصويت على المستوى الوطنى إلّا عام 1971 بعد موافقة 66% فقط من الرجال المسموح لهم بالتصويت. ومع بداية عقد التسعينيات، وبعد مرور عشرة أعوام على إدراج المادة الرابعة الخاصة بالمساواة بين الجنسين فى الدستور خرجت مسيرات دعت إليها العاملات بمصانع الساعات الأقل أجرًا واللاتى شكلن 93% من سوق العمل وقتئذ. وبإصرار من المناضلة «كريستيان برونر» العضوة الوحيدة فى اللجنة التوجيهية لاتحاد عمال المعادن وصناعة الساعات، وبالتعاون مع النقابات النشطة، خرج نحو نصف مليون امرأة من عاملات وجامعيات وموظفات وأمهات وربات بيوت وعاطلات فى أنحاء سويسرا بقطاعاتها اللغوية الثلاث (الألمانية والفرنسية والإيطالية) معلنات استياءهن بكل وسائل التعبير من التطبيق المتباطئ للنص الدستورى المتعلق بالمساواة. اليوم، تقف وراء الإضراب أحزاب اليسار وجماعاته والجمعيات النسوية الناشطة، ويقود التنظيم فرعى النقابتين العماليتين فى العاصمة السويسرية، حيث من المقرر مغادرة النسوة العاملات لأماكن عملهن فى تمام الساعة 3.24 عصرًا، وهو الوقت الذى يجب فيه توقف النساء عن العمل طبقا لأجورهن مقارنة بزملائهن الرجال. على أن تتحرك المسيرات من نقاط تجمع متفق عليها مع حمل أعلام الإضراب البنفسجية التى تزينها قبضة أنثوية تحيط بها دائرة النوع البيولوجية الشهيرة مع رفع اللافتات التى توضح مطالبهن، والانضمام إلى المظاهرة الحاشدة فى ساحة قصر البرلمان. وأعربت السويسرية من أصل لاتينى «روسيو رستريبو»، مديرة مؤسسة ديكوفرير لدعم النساء المهاجرات المؤهلات واحدة من بين 60 جمعية ناشطة- عن أهمية الإضراب للضغط من أجل النساء عامة، والنسوة المهاجرات المؤهلات على وجه الخصوص.. حيث يغض المجتمع نظره عنهن مما يسمح باستغلالهن بالعمل مقابل أجور متدنية فى ظل عدم الاعتراف بالمؤهلات والدبلومات الخارجية، مما يعرضهن للتمييز تبعًا للسن والأصل والانتماء الدينى والميول الجنسية، وهو ما يجعل من حياة المرأة المهاجرة جحيمًا مضاعفًا، حيث ما زالت النسوة فى سويسرا يعانين من التمييز فيما بينهن حتى فى الجحيم الذى يحترقن فيه.