حين كانت خطواتى تتنفس هواء ساحة الأوبرا كان قلبى يدق بفرح هادئ لأنى سأشاهد احتفالا بالفائزين فى مسابقة تراثى للفنون التشكيلية. والمسابقة ببساطة كانت تطلب من شباب الفنانين رسم ما يحبونه من مبان لها معنى تاريخي. وطبعا فالهدف هو صيانة ما أنجزته أجيال سابقة فى فنون العمران, كلون من مقاومة هوس الهدر بالهدم للمبانى القديمة التى حملت عبق التاريخ بحلوه ومرارته لتكون المبانى ذاكرة حية لمراحل من التاريخ. ولم أكن أتصور ان الاعتزاز بما نملك من تراث معمارى يمكن أن يكون له عشاق من الأجيال الشابة، ولكن هذا المعرض الذى أضاء ويضيء ساحة الاوبرا امام مسرح الهناجر يروى قصة العشق الهادئ لتاريخ يقاوم الهدم قامت بتسجيله لوحات رسمها شباب المعماريين والفنانين التشكيلين. وكأن المسابقة وموضوعها هما أداة تنبيه الذاكرة على ما نملك من كنوز. ومن شاهدوا القاهرة مثلى منذ الخمسينيات يمكنهم تذكر كيف كان هواء التنفس فى وسط البلد كان نضرا صافيا غير محمل بهذا القدر الهائل من الأتربة التى يمكن أن تكون صرخة استغاثة لأهمية تشجير وسط البلد، فضلا عن الحلم بان يتم منع تسيير السيارات فى بعض من شوارع وسط المدينة، وكان هذا حلما عند صديقى الراحل الجميل يوسف صبرى ابو طالب إبان ان كان محافظا للقاهرة فى منتصف الثمانينيات. ومازالت عبارته باقية فى ذاكرتى عندما عرض عليه واحد من عشاق الطوب والاسمنت شراء أرض كلية دار العلوم بشارع المبتديان، وكان العرض يحمل رقما ماليا ضخما يمكن ان يلعب بذاكرة أى مسئول يحتاج دائما وغالبا لتعزيز ميزانية ما يمكن الصرف منها على العاجل من الطوارئ لكن يوسف صبرى ابو طالب رفض بيع ارض كلية دار العلوم، لأنه علم ان حى المبتديان الملاصق لحى السيدة زينب ليس به حديقة واحدة ولون الزرع الاخضر غير موجود، وبالتالى فكمية الاوكسجين قليلة, كما انه لا توجد اى مساحة يلعب فيها اطفال الحى وكان ذلك مقدمة لتحويل عزبة عرب المحمدى التى تمتد من مبنى مستشفى الدمرداش وامتلأ قلب الرجل بالمرارة عندما قرأ ملف عزبة عرب المحمدى فقرار إزالتها صدر من الملك فاروق قبل ثورة يوليو ومر على القاهرة عدد لابأس به من المسئولين عن الحكم المحلي, فقرر يوسف صبرى ابوطالب بناء مساكن شعبية فى حى اسمه النهضة وقام بالبحث الاجتماعى لكل المقيمين بعزبة عرب المحمدى ومعظمهم ممن لا عمل مستقر لهم فمنهم من يربون القرود ويدربونها ومنهم الباعة الجائلون وغير ذلك من المهن العشوائية, ومنح كل عائلة شقة بسيطة فى منطقة النهضة, وقام بنقلهم من عزبة عرب المحمدى إلى حى النهضة بما فيها من مدارس وخدمات. ولن أنسى قوله فى كلية الطب عين شمس أنه من المحتمل ان يخرج من أطفال عرب المحمدى من يتفوق دراسيا ويضيف لنا مثلما اضاف على باشا إبراهيم مؤسس طب القاهرة هذا الذى كان ابن سيدة فقيرة قامت بتعليمه فتفوق ونال كل درجاته العلمية بما تلقاه من تعليم مجانى حتى وصل إلى مرتبة الطبيب النادر، وشارك فى بناء طب قصر العينى قلعة الطب فى الشرق الأوسط. وعمل يوسف صبرى ابو طالب على تحويل عزبة عرب المحمدى إلى حديقة غناء فسيحة تضم مكتبة للأطفال. ولن أنسى حوارا دار بينه وبين أحد اقطاب شركات توظيف الأموال الذى عرض مليارات لشراء أراضى عرب المحمدى فكان رد يوسف صبرى أبوطالب: صحة البشر فى هذا الحى تحتاج إلى مساحة خضراء لتنقية الهواء وهذا لن يتحقق إذا تحولت أرض عرب المحمدى إلى غابة أسمنتية. ولذلك وقف يوسف صبرى بالمرصاد لكل من يهدم منزلا له تاريخ. كما رفض بقسوة اى تعلية للمنازل بمدينة نصر لتحتفظ برونقها ولا ترهق الخدمات فيها من مياه او صرف صحى ولكن توقف ذلك فور انتهاء عمله محافظا للقاهرة. وعندما كنت أتجول فى معرض تراثى الذى أقامه رجل الإنجاز بلا ضجبج المعمارى محمد ابو سعدة رئيس جهاز التنسيق الحضاري, هذا الذى ما ان تتكلم معه حتى تجد قلبه مفتوحا لك وفى الوقت نفسه يحتفظ بمسافة بينك وبينه, وطبعا هو يعمل تحت قيادة د. إيناس عبد الدايم المتقنة تماما ان العمل السياسى هو اوركسترا متناغم، فلا تطغى آلة على أخري, لذلك تعطى صلاحية الوزير لكل من يؤدى عمله بمحبة واتقان, شرط أن يعطيها خبرا بما سوف يقدم عليه حتى لاتتضارب أعمال الجهات المختلفة للعمل الثقافى . وطبعا عندما أرى إيناس عبد الدايم فالذاكرة تعود بى إلى بداياتها عندما عادت من باريس حاملة الدكتوراه ومعها الفلوت الذى أعطته جهد السنوات فصارت تتنفس إبداعا فى عزفه وكان الزمن يشير إلى عام1991 وتعاونت إيناس مع كل من يريد إضافة للفن فشاركت فى مؤتمرات ثقافية تنعقد مصاحبة لمهرجان الموسيقى العربية. وصار الاعتماد عليها فى تأصيل أى جديد تقدمه دار الاوبرا. ولم يكن غريبا أن تتألف مع إبداع المعمارى محمد ابوسعدة وتتحمس لأفكاره لتنشيط الذاكرة المصرية بلصق لافتات على أماكن إقامة كبار من أعطوا لهذا البلد فنا وثقافة. وها أنا ذا أضع بين يدى الاثنين ضرورة تسمية بعض الشوارع الرئيسية بالعاصمة الإدارية وبعض من شوارعنا الكبيرة بأسماء من أعطوا هذا الوطن، فلا يمكن ألا نجد شارعا باسم عبد اللطيف البغدادى نائب عبد الناصر وهو من أنجز كورنيش النيل الممتد من شبرا وحتى حلوان وأنجز ذلك فى ثلاثة وستين يوما، ولا نجد أسماء قادة عظام مثل سعد الشاذلى وكوكبة قادة أكتوبر. بينما نجد أسماء بشر لم يؤثروا فى حياتنا وهى على شوارع كبيرة او صغيرة. وأطمع أن تبحث إيناس عبد الدايم ومعها محمد أبوسعدة عن مناقشة الشئون المعنوية للقوات المسلحة لتأخذ قائمة بأسماء الضباط الأحرار وأسماء القادة العظام لمعارك حرب أكتوبر، فهم أبطال من أعطونا الفخار بعد غصة آلام نكسة يونيو التى علمتنا ان الترهل هو الضيف غير المرغوب فيه فى حياتنا. لمزيد من مقالات ◀ منير عامر