مهما طال العمر فلن أنسى هذا التنفس اللاهث الذى لاحظته على من أشرف على بناء السد العالى المهندس محمد صدقى سليمان، ففى ليل الرابع عشر من أغسطس عام1963 كنت قد وصلت إلى موقع بناء السد العالى، لأرى فى أشد ليالى الصيف حرارة كيف يقوم عموم المصريين باللعب بجبل الجرانيت الذى يجرى هدمه ليتدفق النيل مهذبا، فينتقل صعيد مصر من حالة الزراعة لمرة واحدة فى العام إلى زراعة مستمرة طوال العام، وينتج الكهرباء التى تحتاجها الصناعة و القرى. كنت أعرف صدقى سليمان وزير السد العالى كواحد ممن يضعون نصب أعينهم نموذج المهندس محمود يونس الذى أدار قناة السويس بعد تأميمها دون أن تختل للحظة واحدة عجلة قيادتها بين يديه، ولاحظت يومها أن قميص صدقى سليمان «مكرمش» لم يتقن المكوجى فرده، وكان يقود السيارة الجيب التى صعدت بنا إلى موقع العمل أعلى الجبل، وفجأة أوقف السيارة ليجرى قفزا إلى تراكتور متوسط الحجم يرفع أكوام الصخور ويوقف بيده مفتاح تشغيل التراكتور، فنزلت من السيارة لألحق به، لأجده يحمل سائق التراكتور شبه مغمى عليه، وكان صدقى سليمان لاحظ ذلك فهرول إليه وليحمل الملاحظون السائق إلى المستشفى . قال لى لحظتها «يبدو أن السائق مريض بالسكر فقد لاحظت اضطرابه فجريت إليه». وطبعا تم علاج السائق وتم نقله إلى عمل آخر بعيدا عن مواقع العمل الصعبة. ومضى الليل الذى لا أنساه أبدا حيث بدت خيوط من النور تتعانق مع خيوط حركة البشر. وعدت من أسوان لأكتب «إنهم يلعبون بالجبل». نعم لقد لعب المصريون لعبة خشنة مع الجغرافيا وقاموا بتحويل مجرى النيل . وتمر الأعوام لألتقى بيوسف صبرى أبو طالب محافظا للعريش، فحمله أهل العريش فى عيونهم لأنه شاء تطبيق تنمية لم يرض بها مبارك فنقله وزيرا للتنمية الشعبية؛ فأوصى يوسف صبرى أبوطالب بحل تلك الوزارة لأنها بدأت كمركز من مراكز صناعة الفساد عبر إستيراد الطيور الجارحة وتقديمها كغذاء للمصريين، ثم تولى منصب محافظ القاهرة ليرفض بيع أرض أكبر منطقة عشوائية تمتد من طب عين شمس حتى غمرة واسمها «عرب المحمدى» ورغم أن مليارات قد تم عرضها عليه لتدخل خزانة الدولة إلا أنه قال ببساطة «حين ينتقل سكان المنطقة العشوائية إلى حى سكنى مقبول ، سيكون بين أبنائهم من يلتحق بكلية الطب التى عاش آباؤهم بجانبها غير حالمين بتغيير واقعهم ، فكيف أبيع أرضا يمكن أن تحسن من هواء المنطقة من غمرة إلى العباسية؟ وهى تحتاج إلى تجديد مستمر فلتكن هناك حديقة لتقوم بتنقية الهواء» وقد كان له ما أراد . وحين كان السادات قد راقب خطيئة تركه القطط السمان ومعهم المتأسلمون للتوغل فى لحم الوطن الحى كان منصور حسن بمثابة أمل قادم يحتقر الكذب السياسى و قادر على أن يقول للسادات «لقد ولد الحزب الوطنى ميتا بفضل نفس الوجوه التى سبق لها إغتيال الاتحاد الإشتراكى» فأوكل السادات له المهمة المستحيلة وهى إعادة بناء الحزب الوطنى؛ فمعظم من أعلنوا الوفاء للسادات كانوا باحثين عن الثروة عن طريق السلطة، فضلا عن أن الغيرة كانت تفتك بمبارك من منصور حسن القادر على سبيل المثال على أن ينقل للسادات الحوار الذى دار بينه وبين ساسون سفير إسرائيل فى أثناء رحلة السادات للقاء بيجن بشرم الشيخ؛ حيث اقترب ساسون من منصور ليقول هامسا «فخامة الوزير هناك 12 أسرة إسرائيلية تعيش بشرم الشيخ منذ سنوات هل تتوسط لدى الرئيس كى تبقى هناك؟ فرد منصور من الممكن جدا أن أتوسط بشرط أن تعود أولا مئات الأسر الفلسطينية التى تملك مفاتيح بيوتها منذ حرب 1948 مرورا بمن نزحوا من سكان فلسطين حتى الآن» . وطبعا قام السفير الإسرائيلى من مقعده بجانب منصور ليجلس بعيدا. وكان حلم منصور أن يعاد تنظيم التعليم فى مصر كيلا تتسرب منها الخبرات المتعلمة ولا يبقى فى واقعها سوى القادرين على التجارة بكل شيء، كان يردد أن عين المصرى عليها أن تجابه عين الإسرائيلى بالكفاءة والإتقان. وحين قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير كان منصور أحد الوجوه القادرة على القيادة لولا خيانة المتأسلمين برفض تقديم أعداد النواب الذين يدعمون ترشحه للرئاسة، إلا إنه أختار خيرت الشاطر كنائب له فرفض بشكل قاطع . ذكرنى يومها بحكاية مجىء أحد أصحاب شركات توظيف الأموال إليه سائلا إياه أن يقود رحلة أمواله «فقال له» المال الحرام لا يمكن أن ينمو إلا بالحرام. و أكد لى أن وصول الإخوان إلى السلطة هو الصعود الحرام الذى لن يستمر طويلا. وقد رحل منصور بعد أن رأى صعود من يستحلون لأنفسهم مالا يستحقون بعد إعلانهم الولاء للسفارة الأمريكية ، فأحدثه ذات مرة «أغاضب أنت لأنك بعيد عن العمل العام؟ قال لى» لو كنت أرغب بمجرد البقاء فى أبهة السلطة لرضخت لترشيح السادات لى كوكيل لمجلس الشعب، ومافائدة أن تكون فى منصب وأنت قد فقدت نفسك؟ أما فايزة أبوالنجا، فقد عاشت مناصبها وعيونها على إتساع مصر لا على جيوب السادة اللصوص، أو المتاجرين بالثورة؛ لذلك لم يفلح أحد فى لمس ثوب أمانتها، واستطاعت بعد الخامس والعشرين من يناير أن تذيق كلا من الأمريكيين والمتأسلمين مرارة صدقها، وخرجت من المناصب بإرادتها. هكذا تنفس كبار لا يخجل أبناؤهم من تاريخ آبائهم فى العمل العام، مطبقين ما لم يسمعوه معى من الراحل العذب أمين هويدى الذى مارس عمله الوزارى بعقلية المقاتل المثقف كوزير للإعلام ثم الدفاع ثم المخابرات العامة فى عهد ناصر الجليل، قال لى «مهما بلغ إخلاص القائد، فإخلاص المسئول عن رفعة الوطن له أن يأخذ مكانه فى الضمير»، وبهذا يتقدم النسيج الوطنى. لمزيد من مقالات منير عامر