أوضح الحقائق فى دنيا الحرب النفسية هو أن تجعل كل فرد فى مجتمع ما غير قادر على التمييز ولا يعرف أين تتجه به سفن الأحداث وسط العواصف والأعاصير. تلك حقيقة علمية نعيشها كلنا فى الزمن الحالى، فأنت لا تنظر فى عيون أخيك إلا ويتهمك بأنك أنت قد شاركت فى صناعة كل هذا الارتباك الدامى فى شوارع مصر المحروسة. ولولا أنك تجلس بجانبه أثناء حواركما معا لأشار إلى الأيدى التى كانت تقذف كرات النار على المجمع العلمى المصرى ليؤكد الصراخ فى وجهك »أليست اليد التى تظهر على شاشة التليفزيون هى يدك ؟«. ووسط كل هذا الارتباك الجسيم تغيب عن الشمس قدراتها على إنارة الروح، فالظلام الروحى شديد القتامة، ولا يوجد فيه نقطة واحدة يمكن أن يتسرب منها أى ضوء مهما صغر أو كبر. ووسط غلالات الظلام الذى يصر على إصابة التاريخ المصرى بالإغماء، يأتيك ضوء شديد الوضوح بتكوين مجلس استشارى يساند المجلس العسكرى فى إدارة أمور هذا البلد المنكوب بما فعله حسنى مبارك وحاشيته. ثم يلمع اسم منصور حسن ضمن الأسماء التى يضمها هذا المجلس، ثم يزداد الضوء سطوعا عندما يتفق كل الأعضاء على انتخاب منصور حسن رئيسا لهم، فهل عرفوا تاريخ الرجل قبل أن يتم تكوين هذا المجلس؟ من المؤكد أنهم عرفوا هذا التاريخ رغم أن واحدا منهم لم يكن حاضرا فى شرفة منزله ذات يوم قديم فى أواخر أغسطس من عام1891 حين جلست مجموعة من أصدقاء منصور يرجونه ألا يستقيل من آخر حكومة شكلها السادات، وكان الرأى الغالب يؤكد أن السادات لن يقبل استقالة رجل لمع سياسيا فى عهده، وبالتالى فهناك »مكان« له ضمن قائمة الاعتقالات التى شرع السادات فى تنفيذها. ولا يجب أن يترك منصور حسن كرسى الوزارة إلى المعتقل. وكانت ابتسامة منصور الساخرة من هذا الرأى تضىء وجهه الذى يحمل داخله قدرة عقلية مؤمنة بأن الله لا يضيع أجر من أحسن العمل. وهو من وجهة نظره حاول إنقاذ السادات من خطايا الفراعنة والأعوان الموافقين على أى خطوة وكل خطوة يتخذها السادات، وكأنه النبى المرسل. ولما كان منصور حسن يعلم أن السادات إنسان له تجربته، فمن الممكن أن يصيب ومن الممكن أن يخطئ، ولهذا كان دائم الخلاف مع كبار الأعوان للسادات. هل أقول أن استقالة منصور حسن من العمل السياسى فى نهاية عصر السادات كانت سببا فى نجاته من الاغتيال فى حادث المنصة؟ نعم فالكرسى الذى كان سيجلس عليه إن بقى فى منصبه هو الكرسى الذى جلس عليه كبير الياوران وهو من تم اغتياله بواسطة رصاصات خالد الإسلامبولى. ويومها قال لى منصور حسن رحم الله من ماتوا. ولابد أن تتذكر هذا الحادث لأنك كنت أول من رفض استقالتى من العمل السياسى فى هذا الوقت«. ولم أشأ أن أقول لمنصور إنى كنت متأكدا أن فيران النفاق قد أكلت مخ السادات فلم يعد قادرا على التفكير فى أن مصر لن تقبل دخول خلاصة مفكريها إلى المعتقلات، وفى نفس الوقت لا يمكن ترك الساحة لهؤلاء الفيران. وآه من فيران النفاق، فأنا مازلت أذكر أنى كنت أصاحبه ذات مساء فى صيف عام0891 إلى منزل السادات بالمعمورة، وكان منصور ينسق أيامها سلسلة من لقاءات القوى الوطنية المختلفة مع السادات، وبينما كنا نقف على بعد كيلو متر أو أقل قليلا من باب البيت وعلى حرف الحديقة، هنا ظهرت السيدة جيهان السادات على الباب، فأسرعت أغلب القيادات إليها لتقدم لها فروض التحية. وهنا همست لمنصور »ألن نتحرك إلى السيدة جيهان؟« هنا نظر لى باستغراب هامسا »نحن الذين نزور البيت، وعلى سيدة البيت أن تأتى للترحيب بنا لا أن نجرى نحن لتحيتها«. تساءلت »ولكن الجميع هرولوا وأنا لا أطالب بالهرولة، بل مجرد خطوات نسيرها، فقال بحسم »لن نتحرك وإن لم تأت لتحيتنا فسوف نظل فى أماكننا إلى أن يخرج السادات ويبدأ اللقاء معه«. هل أقول أن وزير الداخلية أيامها ركع على أربع ليقدم شيكولاتة كادبورى لكلب شريف حفيد السادات، هذا الوزير الذى قال فيما بعد أمام مجلس الشعب أنه يصور المثقفين وهم بلابيص فى بيوتهم!. وآه من فيران النفاق السياسى، فمازلت أتذكر لحظة دخولى مع منصور حسن مبنى الحزب الوطنى الأول، ولأول مرة. وكان مقر الحزب فى البداية هو مدرسة مصطفى كامل بجانب قصر عابدين، واستقبل كبار الوزراء منصور حسن وكأنه من يملك مفاتيح الحل والربط فى حياة السادات بأكملها. وانتابه غضب خافت، من هؤلاء الذين يملكون قدرة »العجين« فيشكلون وجوههم وملامحهم وخطواتهم وكلماتهم على مقاس من فى يده النفوذ. أتذكر وجه أستاذ حقوق معروف سبق لى التعرف عليه ذات يوم قديم فى مبنى الاتحاد الاشتراكى، واقترب منى وأنا أسير بجانب منصور حسن ليقول »أقسم بالله أنى أشترى مجلة صباح الخير من أجل أن أقرأ ما تكتبه أنت« فقلت له بصوت عال »وأقسم بالله أنى لو كنت أعلم أنك من قرائى لقطعت يدى قبل أن أمسك القلم لأكتب«. وضحك منصور حسن من ردى العنيف. وخرجنا لنسير قليلا فى الشارع المجاور لقصر عابدين وهو الشارع الذى تقع مدرسة مصطفى كامل - مقر الحزب الوطنى القديم - وفوجئنا بوجود أربع خيام منصوبة على أرض منزل مهدم، وفى خيمة منها يعلو صوت نادية الجندى فى فيلم من أفلامها، وهنا قلت لمنصور »هل يستطيع الحزب الوطنى الذى تنوى إعادته من القمة إلى القاعدة أن يقوم بإيجاد مسكن لهؤلاء الذين سقط بيتهم وصاروا ينامون فى خيمة؟ أجابنى: حين يفيق المجتمع من غفوة النفاق السياسى الذى تعيش فيه قمته سيصبح من السهل أن تجد لهؤلاء بيتا، ولأبنائهم فرصة تعليم محترم«. قلت »إن الاسم الحقيقى للحزب الوطنى الذى شكله الرئيس السادات هو الكذب الوطنى، لأن الوجوه التى توجد فى هذا المبنى هى وجوه تحترف فى أغلبها النفاق«. وأخذت أردد ما سبق وسمعته من الرائع الراحل د.صلاح مخيمر أستاذ علم النفس بتربية عين شمس وكان يخطب فى المؤتمر الأول للاتحاد الاشتراكى الذى دعا له جمال عبدالناصر، وقال العالم الجليل الذى سبق وفقد بصره فى حرب8491 وخرج من الجيش بعدها ليواصل دراساته العالية فى باريس، قال الرجل أمام جمال عبدالناصر »يا معلم الشعب إن الذين حولك كالمرايا يعكسون الضوء الصادر منك إليك. ويعطون الوجه الأسود للشعب«. ولم يكن منصور حسن فى حاجة لأن أقول له أنه لو كان هناك ضوء صادر من السادات فالذين حوله هم مجرد مرايا يعكسون الضوء الصادر منه إليه، أما الوجه الأسود فهم يديرونه للناس. وكان منصور يعلم أنى لا أصدق فى قيادة السادات لمصر، فمن عاش مثلى بالقرب من جمال عبدالناصر ومجموعة منه أخلص الرجال معه، لابد أن يقدم ألف شك وشك فى السادات. وأنه لولا إيمان منصور حسن بقيمة المصريين وقدراتهم على فعل المستحيل لما كانت الصداقة بينى وبينه، ولولا إيمانى الذى لا يلمسه أى شك فى أن منصور رجل من طراز سياسى نادر، فهو لا يطلب شيئا لنفسه من العمل السياسى، ويمكن أن تنطبق عليه الجملة الأساسية اللازمة لأى سياسى أمين »أول من يضحى، وآخر من يستفيد«، لولا ذلك لما اقتربت منه ولما أحببته. وكثيرا ما أضحك معه قائلا »لقد صالحت السادات فى الفترة التى عملت أنت فيها معه ولكنه عاد إلى موقعه من رفضى له فور انتهاء عملك معه«. فى رحلته لإعادة بناء الحزب الوطنى - وهى الرحلة التى لم يوفق فيها - كان هناك اجتماع يضم ستين مثقفا من خلاصة عقول مصر، جمعهم منصور حسن ليكونوا نواة لإعادة تأسيس هذا الحزب. وطبعا لم يسترح السادات لوجوههم لأن بعضا منهم كانوا من نجوم العمل السياسى فى عهد جمال عبدالناصر، ومنهم خلاصة عقول تعلمت خارج مصر، ومنهم شباب جامعى متحمس. وعلى مدى يومين اجتمع السادات بهؤلاء، ثم خفت الحديث من بعد ذلك عن إعادة بناء الحزب الوطنى. ولعلها مرة نادرة تمنيت فيها أن أسجل الحوارات التى دارت بين السادات والستين مثقفا، فقد كانت حوارات تكشف عيوب التاريخ السياسى السرى والعلنى للعمل السياسى المصرى أثناء ثورة 32 يوليو، ولكن من قام بالتسجيل يومها صفوت الشريف، وحاولت الحصول على نسخة من التسجيل فلم أفلح، فقد أتقن صفوت من قديم الزمن الطاعة المطلقة لكل كلمة ينطق بها أى رئيس، وهذا هو أقل وصف يمكن أن يوصف به الرجل الذى حمل تاريخه الشخصى من الأدران فوق ما يتخيل أى أحد، وقد حدث فى رحلة عمره ما يجعله يفر دائما إلى الأمام، لأن ما اختاره لنفسه من سلوك أمر كان عليه أن يخجل منه طوال الوقت. ولم تكن عودته إلى العمل السياسى سوى لرغبة السادات فى أن يضم كل من استغنى عنه من الرجال الذى عاونوا جمال عبدالناصر. ولم يكن السادات يكن لحظة من اعتزاز لأمين هويدى الذى رأس المخابرات العامة بعد صلاح نصر وأصر على فصل صفوت الشريف من المخابرات العامة بعد أن تم القبض على صلاح نصر ومعاونيه. والسبب معروف للكافة. واستطاع صفوت الشريف بتقديم الولاء والطاعة لكل من اقترب من السادات، ولن أنسى أبدا يوم مناقشة رسالة الدكتوراه الخاصة بالسيدة جيهان السادات بجامعة القاهرة. وقام صفوت الشريف بتسجيل المناقشة، ولأن منصور حسن كان وزيرا للإعلام وقتها، لذلك اتصل بالسادات ليقول له أنه سيمنع إذاعة هذا التسجيل، ووافقه السادات نظرا لأن هذا قد يثير الناس. وكان صفوت الشريف أيامها رئيسا لاتحاد الإذاعة والتلفزيون، وبحث عنه منصور حسن فى كل أنحاء مصر كى يبلغه بقرار منع إذاعة هذا التسجيل، ولم يعثر له على أثر، اللهم إلا عند إذاعة الشريط الذى خصم من رصيد السادات عند الشارع ولم يقم بإضافة أى شىء للسيدة جيهان السادات. طبعا لايمكن أن أنسى هذا الصراع المكتوم الذى اختاره حسنى مبارك ضد منصور حسن، فهو ليس الكائن المطيع الذى يقول »لبيك وتعاليت« لأى مسئول، عكس الغالبية العظمى من الوزراء ورجال العمل العام. ولعل سبب الصراع هو موافقة السادات على كل رأى ينطق به منصور إلا فيما ندر، بينما يرفض السادات كل رأى يقدمه مبارك ويؤكد له أنه مازال يتعلم. وكان السادات يفضل بطبيعة الحال أن يكون معلما لمن يستمع له. وكان منصور حسن قادراً طوال الوقت على المناقشة وعدم الكذب أو الخداع. واتسعت الفجوة بينه وبين من كان يسير فى ركاب حسنى مبارك، سواء أكان اسمه فكرى مكرم عبيد أو اسمه النبوى إسماعيل أو أى اسم من الأسماء التى برقت ثم زالت من التاريخ المصرى بعد أن سقط السادات برصاص من أخرجهم من المعتقلات، وهم رموز التيار الإسلامى. وكانت أبرز نقاط المناقشة بين السادات ومنصور تنتهى دائما بموافقة السادات على ما يقوله منصور، وهو من بدأ فى إعادة بناء الجسور بين ياسر عرفات والسادات من بعد كامب دافيد، وهو من حاول رأب الصدع العربى بين السادات وقيادات السعودية، وهو الذى شاءت الظروف أن يكون فى الطائرة المتجهة من القاهرة إلى شرم الشيخ ليلتقى السادات بمناحم بيجن قبل تسليمها لمصر، وجاءه ساسون هامسا »هل يسمح لى السيد الوزير أن أجلس بجانبه؟« فسمح له منصور حسن، وهنا قال السفير الإسرائيلى »هناك اثنتا عشرة عائلة إسرائيلية تعيش فى شرم الشيخ فهل تتوسط لدى الرئيس السادات لتبقى العائلات هناك؟« فقال له منصور »موافق تماما بشرط أساسى هو أن ياسر عرفات يملك مفاتيح أكثر من ألفى مفتاح لعائلات كبيرة تسكن فى القدس وحيفا ويافا، وتريد العودة إلى بيوتها، فإن وافق بيجن على عودتهم، أؤكد لك أن السادات لن يرفض بقاء الاثنتى عشرة من العائلات الإسرائيلية فى شرم الشيخ«. وطبعا قفز السفير الإسرائيلى من جانب منصور حسن فقد علم أن الرجل لاينسى حق عودة الفلسطينيين إلى الأراضى المحتلة. أكثر من ثلاثين عاما قضاها منصور حسن بعيدا عن مقاعد القيادة، لأن القيادة احتلها نجوم متخمة بما امتصوا من دماء المصريين فهم من فيران النفاق السياسى. ولم يتأثر منصور يوما على ترك العمل العام، لأنى أعلم عمق إيمان بأنه ليس من السهل أن يفقد الإنسان نفسه مقابل منصب ما. وكان يعلم أنه كلما أدلى برأى فى أى مناسبة كان هناك جيش من الكتبة القادرين على توجيه السهام الرخيصة إلى منصور، لكنه لم يكن ليأبه بتلك السهام، وكان يصر على مناقشة من يوجه له مثل تلك السهام ليجعل دماء الخجل من النفس تندفع إلى وجه من كتب كلاما رديئا ورخيصا. وكنت أضحك من هذا الأمر، وأتذكر يوما قديماً قلت له »لماذا لا تقول لفلان أنه ابن كلب حقير؟« فقال لى »ولماذا لاتتعلم كيف تكون صاحب فضل؟« فاندهشت متسائلا »ولكن فلان هذا ابن كلب حقير فعلا« فرد هو قائلا: »عندما تناقشه فى سلوكه يمكن أن تجعله هو من ينظر فى المرآة ليقول لنفسه أنه كلب وحقير، ولكن لا توسخ لسانك أنت بمثل تلك الكلمات، وبهذا تكون صاحب فضل. عندما تم انتخاب منصور حسن رئيسا للمجلس الاستشارى، آمنت أن المجلس العسكرى يسعى مخلصا لأن يكون له جسر بين الواقع السياسى الذى لم يمارسه أى قائد من قادة القوات المسلحة، وبين المجتمع الذى يتولى المجلس العسكرى قيادته. وعندما وقعت واقعة هجوم أطفال الشوارع على مجلس الشعب ومجلس الوزراء، استسهل الاستقالة بعض من أعضاء المجلس الإستشارى. واتصلت بمنصور حسن لأسمع منه ما أعرف من أن أحدا لا يمكن أن يزايد عليه فى العمل العام، فهو من ترك قمة العمل السياسى عندما ازدحم بمن أسميتهم بفيران النفاق، ولذلك فالبخل بالمشورة فى هذا الوقت القاسى والصعب هو نوع من التخلى عن الوطن. ولأنى أعلم أن قلب منصور خال من أى مطمع أيا كان، لذلك كانت سطورى السابقة، حيث آمنت أنه يمثل شعاعا من ضوء فى زمن مرتبك كثير الظلمة والظلام. وهو فى قلبى - أطال الله عمره - يحمل نفس قدرة الاستغناء التى كان يملكها قادة فى حجم جمال عبدالناصر وأمين هويدى والفريق عبدالمنعم رياض. وعندما أكتب ذلك فأنا أعى كل حرف، فليس فى يد أحد أيا كان شيئا يمكن أن يطمع أو يطمح فى منصور حسن. ويا أيها الجليل لك منى التحية والمودة، وأنت تعلم مكانتك عندى تماما.