كان المنديل المعقم لايغادر يد عبد الحليم حافظ ويضعه على فمه وأنفه قبل الخروج من مصعد المنزل ليركب سيارته. والسبب هو الذعر من الإنفلونزا . وانفلت لسانى منى متسائلا: تخاف من البرد والإنفلونزا لكنك لا تكف عن تقبيل كل أصدقائك على الخدين. قال مبتسما: عندما تكون طوال حياتك وعظامك تعانى مشاعر الوحدة والخوف من الضياع؛ لذلك تحاول حماية نفسك بمحبة كل من حولك. ورغم صدق إجاباته كنت لا أنسى أن تعداد سكان المحروسة لا يزيد على ثلاثين مليون إنسان، وكانت أشجار الشوارع تقوم بتنقية الهواء بحمايتنا من الأتربة فضلا عن قدرتها على تجديد الاوكسجين إلا أن هذه الإجابات أصبحت غير جديرة بأى تقدير حين قفز عددنا إلى ما يقرب من المائة مليون، مع الترهل الظاهر الذى تراكم عبر السنوات على مفهوم النظافة سواء فى الشوارع أو الأماكن العامة, خصوصا بعد أن تحول عدد لا بأس به من عمال النظافة فى الشوارع إلى متسولين يحملون المكنسة يمرون بها كشارة للتسول بين طوابير السيارات المتراكمة فى الطرقات والتى يحلم من يقودونها ببارقة امل فى أن تسير السيارة فى طريقها؛ وآه إن كان هذا الطريق يمتد من حى المهندسين إلى مصر الجديدة؛ فالميعاد المضروب لى مع عميد أساتذة إنقاذ الصدر من متاعب البرد والإنفلونزا؛ وهو العالم الجليل محمد عوض تاج الدين الذى تمثل إنجازاته تمهيد الأرض المصرية امام مشروع التأمين الصحى عندما تولى منصب وزير الصحة، فضلا عن قيادته طب عين شمس لسنوات وهو من رفض ان يقيم اى مستشفى جديد دون أن يجهزه بالعناصر البشرية القادرة على تحمل مسئوليات رعاية من يلجأون إليهم طلبا للعلاج. والمثال الواضح هو جميع الوحدات الصحية والمستشفيات التى لمست خدماتها فى محافظة مطروح والتى مازالت فرق العمل العاملة فيها تذكره بالخير بعد الطبيب. ترك منصب وزير الصحة منذ سنوات ولكن ما تركه فيهم من منهج مازال باقيا كما حدثنى عنه الطبيب أكرم غباشى والطبيب محمد ظريف وكل منهما عمدة عند أهل الساحل الشمالى لا من المصطافين ولكن من القبائل العربية التى تسكن وتحيط بالعلمين وتمتد إلى مرسى مطروح. وتمر على الذاكرة وانا فى طريقى إليه من المهندسين إلى مصر الجديدة رحلة قيادته لمقاومة أنفلونزا الطيور حين اجتاحتنا منذ سنوات ليطفئ بهمة ونشاط وتواضع آثار نيراتها. وتمر على الذاكرة رحلته منذ ان كان مناقشا لا يهدأ له صوت فى مناقشات القيادات السياسية فى منظمة الشباب بعد هزيمة يونيو 1967؛ مرورا بإيمانه العميق بأن التعليم مع التواضع هما الطريقان الوحيدان لخروج المصريين من ورطة الاحتياج، وهو عبر رحلته لم يسع لمنصب ما، بل كانت المناصب تسعى إليه ولا يغادر خياله رحلات البدايات فى المستشفيات الصغيرة كالتى زامل فيها صديقى وراعى أزماتى القلبية شريف مختار عميد علوم الرعاية الحرجة فى بر المحروسة. وكان ذهابى إليه بناء على اقتراح من عميد الرعاية الحرجة وأمراض القلب شريف مختار؛ الذى يعلم تماما انى أعانى خوض غمار الامتناع عن التدخين وهى رحلة قاسية. وعندما تناولت المصل المضاد للإنفلونزا هذا العام دهمتنى الإنفلونزا بعد ثلاثة أيام وكعادة من يجهل الأمر ظننت أن المصل هو الذى تسبب فى نوبة الإنفلونزا الحادة، لكن إطلالة عوض تاج الدين أجابت بمنتهى الحسم: ليس المصل هو السبب بل كانت هناك فترة حضانة للفيروس؛ وظهرت الأعراض فى موعدها. ولن أحكى عن الصداع ولا العجز عن التنفس ولا عن الليل الطويل فى متابعة الصراع بين الشعب الهوائية بالرئتين لتبادل ما هو موجود بها من هواء خال من الأوكسجين بالهواء الجيد الموجود به نسبة مقبولة من الاوكسجين. ويبدو أن فيروس الإنفلونزا فور أن يشعر بجدارة ما يكتبه عوض تاج الدين من أدوية قادرة على هزيمة الفيروس حتى يبدأ الجسد فى استعادة قدراته التنفسية بسلاسة تأخذ خيالى إلى مراقبتى على مدى خمسة وثلاثين عاما لرحلة عوض تاج الدين مع مواجهة أمراض الصدر, فهو من لم يبحث فى رحلة عمله عن منصب ما ؛ فقط كان الحريص على معاملة من يرأسهم بما كان يحب أن يعامله أساتذته، وهو من أعطى الوقت كاملا لكل منصب جاء إليه ليتركه وقد انتظم العمل باتفاق غير مكتوب ولكن تدرب العاملون فيه عليه. وحين سألته عن أهم مايجب مراعاته فى الخريف؛ ضحك: خريف الرئتين يأتى من التدخين، تماما كخريف انتظام عمل القلب، فلا شيء أقسى على الإنسان من أن يسمح بنفسه بهذا الازعاج والعجز عن التنفس حين يزحم صدره بآثار الدخان. خرجت من الكشف الطبى وأحاول هدهدة الرئتين كى تقويان على استخلاص الأوكسجين من هواء شارع العروبة الممتد من مصر الجديدة وحتى كوبرى أكتوبر لأجد ما يدخل أنفى هو الهواء الفظ لعدم قدرة أشجار الطريق على تنقية الهواء. تذكرت قدرات المقاتل يوسف صبرى ابو طالب عندما أدار محافظة القاهرة فى أواسط الثمانينيات، واستقبل فى مكتبه د. شريف بسيونى المصرى الجذور والأمريكى الجنسية والهوى وكان عميدا لكلية القانون بجامعة شيكاغو؛ وكنت حاضرا اللقاء؛ جاءت كلمات شريف بسيونى للحافظ: كيف احتفظت بمدخل القاهرة من المطار وحتى باب الحديد نظيفا؟ وأضاف : وهذه ليست ملاحظتى وحدى بل ملاحظة شيمون بيريز عندما زار القاهرة وحدثنى عنها؟. لحظتها أجاب المقاتل يوسف صبرى أبو طالب: ببساطة حاولت زيادة مساحة زيادة الأوكسجين بالقاهرة عبر سلسلة من الحدائق، فزرعت حديقة فى منطقة عشوائية بجانب جامعة عين شمس وصار اسمها حديقة عرب المحمدي، وزرعت فى مدينة نصر الحديقة اليابانية؛ وزرعت مكان كلية دار العلوم بالمبتديان حديقة ثالثة. وكان همى زيادة أدوات تنقية الهواء وهى الأشجار. ويا ساداتى رجال الإدارة المحلية انتبهوا إلى أن تنقية الهواء عمل أساسى ومهم، كى نقى بعضا من أهالى المحروسة عناء إنفلونزا الخريف. لمزيد من مقالات ◀ منير عامر