اثارت التعليقات التى أبداها البعض على تصريحات المسئولين بوزارة المالية، بأنه لو تم تنفيذ جميع طلبات الوزارات والجهات الداخلة فى الموازنة لارتفع العجز الى ما يزيد على 15%، العديد من الاستفسارات والتساؤلات، حيث استهان البعض بهذه المسألة ووجدوا انه لا مشكلة على الإطلاق طالما سنلبى احتياجات الجهات، الأمر الذى يطرح علينا التساؤل عن أسباب الحرص على ألا يتجاوز عجز الموازنة نسبة محددة للناتج، وماهى الآثار المختلفة لزيادة العجز؟ تؤكد الدراسات ان نفس مستوى العجز يمكن ان تنتج عنه آثار اقتصادية شديدة الاختلاف من دولة لأخرى، وذلك حسب هيكل الإنفاق العام والهيكل الضريبى والأساليب المختلفة لتمويل العجز. ولكن قبل ذلك يجب أولا تعريف وتحديد مفهوم عجز الموازنة الذى نتحدث عنه، ثم محاولة الإجابة عن الأسئلة التالية هل هناك حد أمثل لهذا العجز يمكن ان يتحقق دون ان يؤدى إلى آثار سلبية على الاقتصاد القومى والمجتمع ككل؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب فما هو هذا الحد، وكيف يمكن تحديده أو قياسه؟. وهنا نلحظ ان اختيار مفهوم مناسب للعجز يعتمد على تعريف الحكومة الذى تتبناه الموازنة العامة والأسلوب المحاسبى المتبع (نقديا أو استحقاقا)، وأخيرا نوع الاختلال الذى يعانى منه الاقتصاد. فتحديد خطورة العجز من عدمه ترتبط بالأساس بالحالة الاقتصادية للبلاد، فإذا كانت الدولة فى حالة كساد فان السعى نحو تحقيق التوازن المحاسبى فى الموازنة يعتبر هدفا غير سليم من المنظور المجتمعي، إذ يسهم فى المزيد من التباطؤ الاقتصادي. اى ان هدف الإنماء الاقتصادى يحظى بالأولوية فى السياسة الاقتصادية حتى ولو جاء على حساب التوازن المالي. فزيادة الإنفاق العام مع ما يترتب عليه من زيادة للقوى الشرائية للمجتمع كوسيلة للانتعاش الاقتصادى تصبح أمرا مطلوبا حتى ولو تم ذلك على حساب المزيد من الاقتراض. وهنا يرى كينز ان العبرة ليست بالتوازن الحسابى للموازنة وإنما بالتوازن المالى عبر الدورة الاقتصادية التى تمتد الى فترة زمنية تتراوح بين ثمانى وعشر سنوات. فالتوازن المحاسبى ليس مقدسا فى ظل التوازن المالى على المدى البعيد. من هذا المنطلق يركز البعض على عجز الموازنة باعتباره العنصر الحاسم فى هذه المسألة، خاصة انه يستخدم كمقياس للادخار الحكومى ومن ثم المساهمة فى الادخار الكلى. فالزيادة المستمرة فى عجز الموازنة تعد عنصرا أساسيا فى ضعف المدخرات المحلية. هذا فضلا عن تأثيرها على الائتمان المقدم للقطاع الخاص ومن ثم الحد من قدرات الجهاز المصرفى على توفير التمويل اللازم لهذا القطاع. وعلى الجانب الآخر فان عجز الموازنة وما يرتبط به من اللجوء للاقتراض من الأسواق المحلية عبر طرح أذون وسندات على الخزانة العامة يؤدى الى تحفيز أصحاب الثروات على الاستثمار فى هذه الأصول عديمة المخاطر وذات الفائدة المرتفعة وبالتالى يؤثر بالسلب على الاستثمار المحلى. وعلى الجانب الآخر فان طريقة تمويل العجز لها العديد من الآثار تختلف حسب الوسيلة، إذ توجد عدة طرق لتمويل العجز منها الاقتراض من البنك المركزى او الاقتراض من البنوك الأخرى أو الاقتراض من القطاع العائلى أو الاقتراض من الخارج. ويرتبط كل شكل من أشكال التمويل هذه بأحد الاختلالات الأساسية فى الاقتصاد القومي. فالاقتراض من البنك المركزى عن طريق طبع النقود بمعدل يتجاوز الطلب السائد يؤدى الى أرصدة نقدية مفرطة، مما يرفع فى النهاية المستوى العام للأسعار، وتصبح هذه الوسيلة إحدى الآليات المحتملة للتضخم. أما الاقتراض من الجهاز المصرفى فإنه وعلى الرغم من كونه لا يؤدى إلى إيجاد قاعدة نقدية تلقائيا، الا انه يزاحم القطاع الخاص فى الائتمان. ومن ثم تضطر هذه المصارف إلى خفض ائتمانها الى هذا القطاع وهو ما يطلق عليه أثر المزاحمة من خلال زيادات أسعار الفائدة. اما الاقتراض من القطاع العائلى فانه ينطوى على مخاطر عند الإفراط فى استخدامه، فهو أيضا يؤدى الى المزاحمة مع القطاع الخاص ورفع أسعار الفائدة ثم زيادة تكلفة الدين ومن ثم عبء الدين فى المستقبل. وهنا يتساءل البعض عن مستوى العجز الممكن، وعلى الرغم من ان الأدبيات لم تنبئنا بنسبة معينة يمكن اللجوء إليها بحيث يصبح تجاوزها يهدد الاستقرار الاقتصادى الكلى. وان كان البعض قد لجأ إلى النسبة التى تم التوصل إليها فى إطار اتفاقية ماستريخت للوحدة الأوروبية وهى3 % إلا إن هذه النسبة يؤخذ عليها عدة أمور، أولها ان هذه النسبة وضعت فى إطار الاتفاق على التوحيد النقدي، اى إنشاء عملة أوروبية موحدة وهو امر يختلف تماما عن تقييم السياسة المالية فى حد ذاتها. ثانيا ان هذه البلدان تختلف اختلافا كبيرا من حيث مستوى التطور الاقتصادى والاجتماعى بها، وبالتالى لا يجوز اللجوء إليها باعتبارها المرجعية الأساسية فى هذا المجال. مع ملاحظة ان ثورة المالية العامة فى الدول الصناعية الكبرى قد استهدفت أساسا علاج مشكلات الدورة الاقتصادية بينما ثورة المالية العامة فى الدول النامية كانت ذات طابع مختلف لأنها استهدفت الارتقاء بمستوى المعيشة وتحقيق الأهداف التنموية من الضرورى علاج عجز الموازنة، وهو لا يعنى إنهاء العجز بل يشير ببساطة الى المستوى الذى يصبح عنده الاقتصاد قادرا على النمو دون مشكلات تضخمية او ركود، وهو مستوى يجب البحث عنه بدقة وعناية فى ضوء الخبرة التاريخية للاقتصاد القومى وكذلك الأوضاع الاجتماعية الراهنة. وهى مسألة يجب أن تتم فى إطار رؤية تنموية متكاملة ومن منظور شامل وواسع يأخذ بعين الاعتبار علاج الاختلالات الهيكلية فى الاقتصاد القومى ويدفع عجلة التنمية الى الأمام، وبالتالى ينبغى ان توجه سياسات الإصلاح المالى الى تحقيق هدف النمو الاقتصادى على الأجل الطويل. ولذلك علاج العجز ينبغى ان ينطلق من عدة مبادئ أساسية، هى ان علاج العجز لا يعنى القضاء عليه بل الوصول به الى مستويات مقبولة مجتمعيا. كما ان هذا العلاج سوف تترتب عليه تكاليف معينة يجب أن يتحملها المجتمع وفقا لاعتبارات العدالة. كما ان علاج العجز يجب ان يتم على مدى زمنى متوسط وطويل، وليس على المدى القصير. لمزيد من مقالات ◀ عبد الفتاح الجبالى