رمضان فى إسكندرية جميل ومليء بالحكايات..والروحانيات فيه لها مذاق خاص فهى ممزوجة بالسعادة والرضا، فشوارع المدينة تتلألأ بين أفرع الزينة الملونة والمساجد تحفها الأنوار والأطفال يلعبون بالفوانيس والشباب يتريضون على البحر، فى انتظار انطلاق مدفع وموج البحر يلهث ويلهج بالحمد والثناء والمدينة تكون فى أبهى صورها احتفالاً بقدوم شهر الخير والبركات. عائلة من ستة أشقاء و23 حفيدا يتحملون مسئولية تزيين شوارع المدينة ستتذكر بمجرد دخولك منطقة القصعى بالاسكندرية، الشهيرة بالرمل الميرى خلال أيام شهر رمضان، العبارة الشعرية التى تغنى بها الخال الراحل عبد الرحمن الأبنودى «ياحارس هذا المبنى الموروث ظل جدودك فى الجدران مغروس». فعلى مساحة لا تتعدى المائتى متر، يقف ببهاء مبنى يضم عائلة مكونة من ستة أشقاء و23 حفيدا، ورثوا جميعا عن جدهم الأكبر «محمود سليمان» - أول من وطئت قدمه تلك المنطقة - شغل البوص وتشكيله وصناعة الطائرات الورقية التى كادت تنقرض أمام جحافل الطائرات البلاستيكية المستوردة من الصين. وحرصت العائلة ذات الثلاثة المتعاقبة على مدى أكثر من أربعين عاماً، ألا تنقرض تلك الصناعة اليدوية البسيطة وأن تظل المناطق الشعبية تتمايل فى فضائها تلك الطائرات، من خلال شوارعها وأسطح المنازل القليلة الارتفاعات وبجوار أبراج الحمام وليس ذلك فقط، فقد ورثت تلك العائلة بأبنائها وأحفادها صناعة زينة شهر رمضان التقليدية العتيقة والحديثة أيضا، فعندما تعبر من ذلك الشارع الملاصق لسور قطار أبى قير ستشعر ببهجة لا مثيل لها، فالشارع مكتظ بمختلف أنواع الزينة والتى تتدلى من شرفات منازل ذلك الشارع على اتساع مساحته وامتداد طوله قصاصات الورق الملون وفوانيس رمضان. وهناك كان للأهرام لقاء بأبناء الجد محمود سليمان، المؤسس الحقيقى لتلك البهجة، يقول «أيمن محمود» مهندس انتاج وأحد الأحفاد :جدى كان تاجرا وصاحب محل لبيع أدوات مكتبية وكل أشغال البوص وبالأخص الطائرات الورقية، فكان محل الجد هو مصدرا رئيسيا لبيع تلك الطائرات بالجملة وقطاعى وأيضا زينة رمضان التقليدية ونحن مستمرون وقادرون على المنافسة بقوة لأن أسعارنا رخيصة، حتى أن هناك تجارا كبارا من المنشية تتعامل معنا وتأخذ بسعر الجملة. وعن زينة رمضان يقول الحفيد إن هناك نوعا منتشر منها بشكل أكبر فى المناطق الشعبية،: المتر منه بسعر جنيه واحد، ولو الزبون طلب أكتر من مائة متر بنتعامل مع سعر المتر بنصف جنيه وصية الجد ويضيف أيمن محمود: أننا نعمل 11 شهرا فى السنة باستثناء شهر رمضان لأننا ننتج كميات من الزينة بالأطنان التى يحبها السوق، خاصة الزينة الشعبية الرخيصة الثمن، ولكن شكلها أجمل وأكثر بهجة. ويستكمل: أن الراحة الوحيدة لنا تكون فى شهر رمضان ويبدأ شغلنا بعدها من أول يوم العيد..تعودنا على ذلك منذ صغرنا، حيث كان جدنا سليمان يأخذنا جميعا ونحن أطفال لنشاهده وهو يقوم بصنع زينة رمضان والطائرات البوص الورقية، وكان هدفه من ذلك هو أن نتعلم هذه الصنعة ويتوارثها أحفاده، وألا تضيع هذه المهنة من العائلة، لقد حرص جدى على ذلك وأوصانا جميعاً ونفذنا الوصية ولكن أحب إقول إننا جميعا كأحفاد عشقنا هذا العمل بشدة لأنه عمل مبهج ونجنى ثماره فى النهاية، ويكفينا أننا ونحن أطفال كنا نمشى فى شوارع المدينة والشوارع المحيطة بنا ونشاهد نتاج أيدينا طوال السنة، فكنا نشعر بالفخر ونحن صغار، لقد نجح جدنا بالفعل رغم بساطته بفطرته الذكية أن يزرع فينا حب هذا العمل، وأعتقد أننا كأحفاد سنستكمل تلك المسيرة. تقول والدة أيمن وزوجة الابن الأكبر للجد محمود سليمان «نبدأ من منتصف شهر شعبان بفرش الشارع وتعليق الزينة، وتستمر عملية التعليق ما يقرب من أربعة أيام نعمل فيها أربع وعشرين ساعة ورديات، لحراسة الزينات حتى حلول شهر رمضان، وأيضا لأن هناك شبابا صغيرا السن يحلو له الشراء وتعليق الزينة فى أوقات متأخرة من الليل». وتستكمل الأم قائلة لدى مهندسان من أولادي، أحدهما يعمل بدولة الكويت، وقبل شهر رمضان بأسبوعين يحصل على اجازة ويأتى ليشاركنا فى عملنا، وهو يستلم وردية المساء حتى الساعات الأولى من الصباح، ليتسلم منه الأب، ثم خلال منتصف النهار يتسلم ابنى أيمن ورديته، بعد أن يكون قد عاد من العمل. وابنى بيحضر من الكويت أيضا ليعيش تلك البهجة، فقد حاولنا أن نخفف عنه عبء الحضور وتكاليف السفر، إلا أنه كان يرفض بشدة ويصر على الحضور ومشاركتنا تلك اللحظات الجميلة التي، لا تأتى إلا مرة واحدة فى السنة..وأيضا لأنه بدول الخليج لا توجد تلك الطقوس الجميلة فى الشوارع، والاحساس بهذا الشهر الكريم كما يقول لا يوجد إلا على أرض بلده مصر.. يقول نبيل محمود سليمان أحد الأبناء، 63 عاما، : نحن أربعة ذكور وبنتان أغلبنا موظفون ومتعلمون، وأنا حاصل على دبلوم فنى الكترونيات، رفضت العمل بشركة بترول فى أواخر السبعينيات لأن الراتب كان وقتها ثلاثين جنيها، وتجارة الوالد كانت أكثر ربحا، فقررت التفرغ للعمل بمحل الوالد واستطعنا أنا وإخوتى الذكور أن يكون لكل واحد فينا محل نتاجر فيهم فى الأدوات المكتبية، وشغل الخردوات وجميع ألعاب الأطفال المصنوعة يدوياً،. لكل واحد فينا رزقه، لاننا اتفقنا على ذلك، فجميعنا نبيع المنتجات بنفس السعر ولا أحد ينافس الآخر...وعن الأعمال الخاصة برمضان يقول نبيل: أِصدقائى الموظفون يأتون من شغلهم وبعضهم يعمل بالنقل العام، ويتفرغ للعمل معنا لمدة ساعتين يومياً لقص الورق السوليفان والنايلون وتربيطه وتعبئته داخل أجولة والجوال الذى ننتهى منه نقوم بتخزينه فى احدى حجرات شقة خصصناها لتلك الأعمال طوال السنة باستثناء شهر رمضان. ويضيف نبيل: مصادرنا فى عمل تلك الزينة أغلبها قوالب الورق السوليفان وبكرات الشرائط وأيضا مخلفات افلام الفيديو والكاسيت، حيث نقوم بشراء شريط الفيديو الواحد من تجار الخردة بجنية واحد، نقوم بكسره وتقطيع البكرة التى بداخله إلى شرائط وتربيطها فى الدوبار المخصوص للتعليق. وعن سر البهجة التى كانت واضحة بقوة على وجوه نساء تلك العائلة وأمهات الأحفاد، اكتشفنا أنها ليست فقط ابتهاجا بموسم تجارتهم واقتراب شهر رمضان الكريم، ولكنها أيضا نابعة من قصص الحب التى سادت أغلب زيجات الزواج للأبناء الأربعة الذكور، فجميعهم كانوا يلعبون بالشوراع معا وارتبطوا وتشاركوا منذ الصغر بهجة تعليق تلك الزينة واللعب بالطائرات الورقية.