فى هذا المقال أركز على المطلوب والمتاح من عناصر التحديث المنشود لصناعة الغزل والنسيج المنتجة لسلع استهلاكية أساسية، ولفرص عمل واسعة وبتكلفة نسبية منخفضة، والدافعة لتطوير غيرها من فروع الصناعة التحويلية، وذات الميزة التنافسية التاريخية حيث كانت مصر حتى مطلع السبعينيات رائدة وفى صدارة إنتاج الملابس القطنية. وأسجل، أولا: أن أهمية تحديث صناعة الغزل والنسيج تتضح من أنها محفزة لتعميق التكامل بين: القطاعين العام والخاص، والمشروعات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، والصناعة والزراعة وغيرهما من قطاعات الاقتصاد الوطنى. وهى صناعة قادرة على استرداد المكانة المرموقة للقطن المصرى، ومجسدة للترابط المحتوم لبناء قاعدة صناعية حديثة بين الصناعات منخفضة التكنولوجيا مثل الغزل والمنسوجات والملابس والمفروشات، ومتوسطة التكنولوجيا مثل الأسمدة الكيماوية والمبيدات، وراقية التكنولوجيا مثل الآلات والمعدات الزراعية. وثانيا: أن تحديث الصناعة أو الارتقاء بالتصنيع فى مصر كما فى كل مكان يقتضى تعديلات مهمة فى السياسات الاقتصادية لضمان أسبقية الاستثمار فى الصناعة التحويلية مقارنة بالقطاعات الأخرى. أقصد مثلا القرار المهم الذى أصدره البنك المركزى بمنح أسبقية التمويل المصرفى للصناعة فى برنامج تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والذى يدفع نحو مضاعفة معدل نمو الصناعة التحويلية بما يرفع نصيب الإنتاج الصناعى فى الدخل القومى، ويخلق فرص عمل منتجة وعالية الإنتاجية والدخل لقوة العمل المتنامية، ويسهم فى تعظيم إمكانية مضاعفة الصادرات السلعية فى مواجهة اختلالات الميزان التجارى والحاجة للاقتراض من الخارج. وثالثا: أن استهلاك المصريين من الملابس الجاهزة والمفروشات فى أحدث تقدير متاح قدر بنحو 200 مليار جنيه سنويا، بافتراض متوسط استهلاك منخفض للفرد يتراوح بين 7 و8 كيلو جرامات فى السنة، مقارنة بمعدل عالمى يبلغ 14 كيلوجراما. وقدر أن الإنتاج المحلى لم يغط سوى 20% من حجم المعروض من الملابس فى السوق المصرية، لتسيطر المنتجات الأجنبية على السوق خاصة ان جزءا كبيرا منها يدخل بالتهريب، مما انعكس على الصناعة الوطنية، فخفضت معظم المصانع إنتاجها. ورابعا: إنه فى مواجهة خطورة التهريب وانفلات الاستيراد بآثارهما المدمرة للصناعة والعمالة فى مصر، صدرت قرارات ترشيد الاستيراد، التى خفضت حجم الواردات من الملابس الجاهزة بنحو 90%. وبعد قرارات ما يعرف بواردات بورسعيد، انخفض عدد حاويات الملابس الجاهزة المستوردة، التى كانت تدخل المنطقة الحرة ويتم تهريبها الى جميع أنحاء الجمهورية، من 4300 حاوية الى نحو 200 إلى 300 حاوية فقط. وفى هذا السياق، توافرت حوافز شجعت المنتجين على ضخ استثمارات جديدة لتطوير مصانعهم، وصاروا يتابعون خطوط الموضة العالمية وأحدث ما توصلت إليه الصناعة من ماكينات وموديلات جديدة وإكسسوارات، وشهدت صناعة الملابس الجاهزة خلال السنوات الثلاث الأخيرة تطورا يعادل ما شهدته منذ 20 عاما. وخامسا: أن فتح باب استيراد الغزول على مصراعيه أضر بالغزول المحلية، لأن الدول المصدرة تدعم مصدريها فيصبح سعر السلعة المستوردة أرخص من المحلية، مما جعل الصناع يهجرون استخدام الغزول المحلية. وتفاقمت أزمة صناعة الغزل الوطنية مع تهريب الغزول الى السوق المحلية من مصانع المناطق الحرة، التى تستورد الغزول بنظام الدروباك، أى أنها تسترد الضرائب والرسوم الجمركية ورسوم الخدمات، بزعم استخدامها للغزول الاجنبية كمدخلات لإنتاج المنسوجات والملابس الجاهزة وتصديرها كمنتج تام الصنع، وهو ما لم تقم به. وبجانب ضرورة مواجهة تحايل مصانع المناطق الحرة، لابد من فرض رسم وارد على الغزول المستوردة بحيث نجعل للغزول المصرية ميزة سعرية، لتكن نسبها 5% لدعم الصناعة الوطنية. وسادسا: أنه منذ تعويم سعر صرف الجنيه، كان من المفترض مضاعفة حجم الصادرات من الملابس، لكن الزيادة جاءت محدودة جدا، من جهة، لأن نحو 60% من مستلزمات صناعة الملابس مستوردة من الخارج، وهو ما ضاعف أسعار مستلزمات الإنتاج، ومن ثم أسعار المنتج النهائى، ومن جهة ثانية، بسبب غياب القدرة على إنتاج ما يمكن تصديره، حيث تعثرت أعداد كبيرة من المصانع وتوقف الكثير منها جراء تفاقم مشكلات ارتفاع تكاليف التمويل والإنتاج وأسعار الغاز والكهرباء والمياه، وعدم توافر العمالة المدربة. وقدر أن نحو 90% من المصانع لم تتمكن من تحديث ماكيناتها طوال 9 سنوات، لعدم توافر السيولة اللازمة لشراء المعدات الحديثة ومستلزمات الإنتاج. وسابعا: أن مصر كانت تستحوذ على نحو 5.6% من الصادرات العالمية من الملابس الجاهزة، ومع تدهور الصناعة المصرية انخفضت النسبة إلى نحو 3% فقط، وعلى سبيل المثال، فان شركة غزل شبين الكوم التى كانت تصدر نحو 70% من إنتاجها، صارت تكلفة منتجاتها مرتفعة وفقدت القدرة على المنافسة فى الأسواق الخارجية، بل والسوق المحلية. ويقينا فان نهوض الدولة بدورها فى مواجهة مشكلات صناعة الغزل والنسيج والملابس والمفروشات التى تواجه قطاع الأعمال العام والخاص، وتنفيذ برنامج التطوير الذى بدأ تحت اشراف القيادة السياسية، يمثل شرطا مسبقا لاستعادة القدرة التنافسية والتصديرية، وتعظيم فرص الاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة ومن موقع مصر الفريد. وأخيرا، فان أهم عناصر تنفيذ برنامج تحديث وتوسيع وتعميق صناعة الغزل والنسيج فى قطاع الأعمال العام، وهى ذاتها اللازمة لقطاع الأعمال الخاص، تتمثل فى توفير رأس المال اللازم للاستثمار والتمويل، وتعليم وتدريب قوة العمل عالية الإنتاجية، وحماية السوق الداخلية وتوسيع السوق الخارجية للمنتجات، والارتقاء بقدرات البنية الأساسية الإنتاجية للطاقة والنقل والاتصالات وغيرها، وحفز المستثمرين والمنظمين- المبادرين والمبتكرين والمخاطرين من الصناعيين، واتخاذ الكفاءة الإدارية والفنية معيار اختيار قيادات القطاع العام، وربط توسيع المعمور من الصحراء بتخصيص الأراضى للصناعة، بجانب تطوير التعليم والتدريب ومنظومة ابتكار واستيعاب معارف ومواد التكنولوجيا، وجعل الاستثمار الصناعى والزراعى بوصلة توجيه السياسات والتشريعات. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم