رغم مرور 58 عاما على إنتاج أوبريت «الليلة الكبيرة» فإنه العرض الأكثر مشاهدة والأكثر جذبا وتحقيقا للنجاح فى كل مرة يقدم فيها.. وهو الأيقونة الأولى التى يفاخر بها قطاع الإنتاج الثقافى فيستهل عروض «هل هلالك» المجانية للجمهور بها فى حديقة الهناجر بدار الأوبرا المصرية.. ويقف الفنان المبدع خالد جلال صاحب فكرة تنظيم ذلك المهرجان الرمضانى السنوى وسط مئات الأطفال وآبائهم وأمهاتهم.. الكل مبهور وهو يشاهد ذلك الأوبريت العظيم الذى يشكل وجدان الصغار ويستعيد للكبار أجمل الذكريات.. ثم ينتقل العرض إلى مركز طلعت حرب الثقافى التابع لصندوق التنمية الثقافية ليصبح أهم وأمتع البرامج المقدمة فيه.. ثم يطوف الأقاليم ويعود إلى مقره فى مسرح العرائس ولا يصيبه القدم أبدا ولا نمل تكرار مشاهدته.. ما سر ذلك الأوبريت العبقرى المسمى بالليلة الكبيرة؟! يحب صاحب هذه السطور أن يشير فى البداية إلى أن الحظ قد حالفه فولد فى بيت فنى وكان والدى الكاتب الصحفى أحمد بهجت هو أحد أعز أصدقاء صلاح جاهين المقربين.. وكنا نسكن فى شارع عبد العزيز جاويش بباب اللوق حيث يقطن فوقنا الموسيقار سيد مكاوى. وينزل كل ليلة تقريبا إلى غرفة مكتب والدى أو الصومعة ليلتقى معه ومع صلاح جاهين ومجموعة أخرى من الفنانين والأدباء.. وكان كل منهم موسوعة متنقلة فى مجال تخصصه.. ولكن الثقافة وحدها لم تكن السر فى النجاح.. فصلاح جاهين قضى سنوات طويلة من عمره جوالا يطوف المدن والقرى والشوارع والأزقة.. يجلس على المقاهى ويحضر الموالد الشعبية ويتحدث إلى الناس ويعجب بنداءات الباعة الجائلين وما فى تزيينهم لبضائعهم من صيغ فنية مبدعة وكان هذا التجوال بمنزلة دراسة ميدانية للموالد الشعبية وما يحدث فيها من أعاجيب بين إنشاد دينى وحضرات صوفية وغناء شعبى وعاطفى وملاه وألعاب أطفال وسيرك وكلما تجمع الناس زاد توافد الباعة الجائلين.. هذا يبيع الحمص والفول السودانى وذاك السمك المقلى وهذا يبيع الزمامير والشخاليل والطراطير إلى غير ذلك من صور واقعية تضمنها أوبريت الليلة الكبيرة.. وبالطبع لا ننسى ولع صلاح جاهين بالدراما وعشقه للتمثيل والغناء فضلا عن الرسم والكاريكاتير وبالطبع قبل ذلك عبقريته الشعرية.. وقد وظف كل ذلك فى البناء الدرامى لليلة الكبيرة.. وعلى نفس القدر مارس الشيخ سيد مكاوى كافة أنواع الغناء من الإنشاد الصوفى والدينى والغناء الشعبى والعاطفى منذ طفولته ودرس كل من سبقه من العباقرة وتشرّب أسلوب أستاذه زكريا أحمد الذى كان شديد الحفاظ على التراث الشرقى كما تأثر بفنان الشعب سيد درويش فى التلحين الدرامى والحوارات المتعددة وبالطبع باقى المدارس الفنية لكنه أصبح فى النهاية له مذاقه وبصمته الخاصة التى انطبعت على كل من لحن لهم من عباقرة الطرب ومن بينهم أم كلثوم ومحمد عبد المطلب ووردة ومحمد قنديل ومحمد رشدي.. كما تميز سيد مكاوى بعبقرية خاصة فى تلحين قصائد الشعر العامى بالإضافة لتلحين قصائد الفصحى ولولاه لما تعرفنا على نتاج عبقرية فؤاد حداد وصلاح جاهين فى أعمال لم تكن مكتوبة بقوالب وصيغ الأغنية الفردية.. وليس أدل على ذلك من نجاح الموسيقى إلى الآن وقدرتها على تجاوز الزمن والسبق فى سرعة الإيقاع مع الاحتفاظ بعنصر الطرب وحلاوة الجمل الموسيقية وأسلوبه السهل الممتنع.. أما العنصر الثالث فهو المخرج الكبير صلاح السقا الذى كان يحمل رسالة وإيمانا بضرورة إدخال فن العرائس مصر فدرس على يد الخبير العالمى سيرجى أورازوف الأب الروحى لفنانى العرائس فى العالم ثم سافر فى بعثة إلى رومانيا ليحصل على دبلوم الإخراج المسرحى تخصص عرائس ثم يعود لينشئ مسرح العرائس القائم الآن بالعتبة.. والعنصر الرابع بالطبع هو مصمم العرائس العبقرى ناجى شاكر الذى نحت من وجوه المصريين «دول فلاحين ودول صعايدة دول م القنال ودول رشايدة» فبدت الوجوه تنطق بأحوال أصحابها داخل المولد الكبير وتبقى فى وجدان كل من شاهدها.. ولعلنا لا ننسى بالطبع المناخ العام المشجع على الإبداع والباحث عن الجديد المتميز بقيادة وزير الثقافة آنذاك الدكتور ثروت عكاشة الذى اختار أربعة من الشباب الواعدين ووثق فيهم ودعمهم وتابع عملهم وذلل لهم كل الصعاب ولم يبخل على التجربة التى شارك فيها المطربون: محمد رشدى وحورية حسن وعبده السروجى وإسماعيل شبانة وشفيق جلال وشافية أحمد إلى جانب صلاح جاهين بنفسه وبالطبع سيد مكاوى.. هو عرض يدل على أن النجاح لا يأتى من فراغ ويؤكد أن الله لا يضيع أجر من يتقن عمله.