فى أيامٍ رمضانيةٍ خالية من طعم رمضان المُختمر بخميرةٍ مصريةِ اليقينِ والطعمِ والرائحة، يُصبح السعى لابتعاث الإنسانية فى النفوس غاية الساعين للإفطار على وطن، وفى وطنٍ مُبتلى بغياب مواطنه الفاعل، يَغْدُو إنشاد المسحراتى للتَنَبُّه فرضًا على أفئدة المؤمنين. وفى الوطن المنشود تسليةٌ للصائمين عن زاد الهوان، والمتطلعين إلى إفطارٍ زادُه نتاج إدارة تعى أصالة الفأس الزارع، وسواعد ترى فى فأسها نيشان عزٍ شخصى وعِزة أُمَّه، وبحثًا عن عن أسبابٍ لتسلية صيامنا، تسوق إلينا وسائل إعلامٍ فائقة السرعة، تَوبَةً عَلَنِيَّة مدعومة بمقاطع مصورة للداعية السعودى (عائض القرني)، الذى يتبرأ فيها من مواقفٍ واجتهاداتٍ إسلامية أنتجها خلال الفترة الماضية، وبغير الوقوع فى خانة استثمار توبة (القرني)، فحسبنا ما راج إعلاميًا من معالجات لم تغادر تلك الخانة. لكن تسلية العقول فى صيام أيامنا هذه يستوجب التوقف عند توبة الشيخ واعتذاره، حيث إن مُنْتَجَهُ لم يُسوَّق باعتباره مُنتَجًا إبداعيًا، بل تصدره عنوانٌ واضح (الإسلام وقضايا العصر)، و خطاب (من موَّحدٍ إلى مُلحد)، كان المُنتَج عبارة عن إعادة إنتاج خطاب فقهى قديم باعتبار أن عصرنة الخطاب كافية لإنتاج فقه العصر، والحقيقة أن هكذا حصر لفعل العقل لا يؤهله لترجمة الإيمان فعلًا ترقى به النفوس بما يؤهلها لإعمار الأرض. بما أعلنه الشيخ القرنى صرنا أمام مراجعة لخطاب إسلامى ساد خلال العقود الماضية، وما ساد إلا نتيجة لفرض الصيام على العقل الإسلامى بعدما تسحر على زاد أعده آخر الأئمة المجتهدين أحمد بن حنبل الذى رحل عن دنيانا قبل (1199 عامًا)، ليست أبدًا القضية مُجرد استخدام للخطاب الديني، بل تتعداه إلى إشاعة تعطيل الاجتهاد الدينى بفرض الصيام العقلى فى مواجهة تقديس نِتاج الاجتهادى القديم. عبر قاعدة الإجماع التى رآها ابن تيمية باعتباره كان من مجتهدى عصره قال (وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة، وغيرهم، فليس حجة لازمة، ولا إجماعًا، باتفاق المسلمين)، وهو ما لخصه الإمام محمد أبو زهرة نهاية القرن الرابع عشر الهجرى حين قال (الإجماع هو اتفاق المجتهدين من الأمة الإسلامية فى عصر من العصور بعد النبى صلى الله عليه وسلم على حكم شرعى فى أمر من الأمور العملية). لسنا فى مواجهة مجرد مراجعة لقيادة تنظيمية تقليدية، وخصوصية الشيخ (القرني)، وطبيعة خطابه الذى تصدر خلال عقدين من الزمان وأنتج أجيالًا من طيف الوعى الإسلامى التنظيمي، هذه الُمحَدِدات تجعل دائرة المَعْنيّ بالمراجعة أوسع من مجرد شخص (القرني)، فالحقيقة الصادمة أن من تشارك فى ربط الخطاب الإسلامى بتراث اجتهاد السلف يتجاوز مجرد شخصية مثل (القرني)، ومدارس الدعوة الإلكترونية والمطبوعة من قبلها خَرَجَّتْ (القرني) نجمًا لساحتها ولكنها مثلت زادًا لصُناعِ وعيها دُعاةً فى أوقاف الدول العربية والإسلامية. فى مناخٍ عامٍ مشابهٍ لواقع مواطن زماننا وإدارته، عاش الإمام أبو حامد الغزالى كان ذلك بعد عقدين ونصف عقد من الزمان على رحيل آخر الأئمة الأربعة، وكانت الدولة الإسلامية على اتساعها تعايِن آفات التفتيت والتردي، حينها أنتج الإمام أبو حامد الغزالى كتابه (إحياء علوم الدين)، ظهر الكتاب فى نهايات القرن الخامس الهجرى باعتباره خطابًا إصلاحيًا متجردًا يسعى عبر عنوانٍ مباشر إلى تنبيه الوعى الجمعى بأهمية إحياء علوم الدين، كان خِطاب الغزالى مُتجاوزِاً اجتهاد مدارس الفقه التى لم تستطع البقاء رغم رحيل آخر الأئمة، وكان الغزالى فى استهدافه لعلوم الدين مُتجاِوزًا ما له علاقة بأى خلاف إلى إحداث وعيٍ عامٍ يرتقى بالإنسان ليستطيع البقاء فى مواجهة توحش مهددات البقاء، لم يكن خطاب الغزالى مُنحازًا بأى شكلٍ من الأشكال وإنما أنتجه يقين بأن دينُ الإنسان رابط شديد الخصوصية بينه وبين ربه وبالتالى لا يجوز أن ندعو مع الله أحدًا، وخرج خطاب الإحياء فى أربعة أرباع هى العادات والعبادات والمهلكات والمُنجيات، وجميعها مناطها الفؤاد ليسمو فتسمو معه الجوارح وترتقى رسالة الإعمار، كسر الغزالى بخطابه ما ساد من معارك حول مواطن اختلاف الفقهاء، وتجاوز فى منتجه أسطورة إجماع الجماعة، وقرر أن يحقق مقولة الشيخ أبو زهرة فى القرن العشرين، كان اجتهاد الغزالى البيان العملى لإبداع العالم فى صياغة رسالة الإنقاذ. إن مُراجعة الشيخ (القرني) على مستواه الشخصى مردها إليه، وعلى المستوى العام مردها إلى القائمين على صناعة الشخصية الإسلامية وفى القلب منهم فضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب وهو من رواد دروب الاجتهاد، فمَنّ سَوَّق وجوب صيام العقول أدرك خطيئة تعطيل أسمى نعم الله على بنى آدم، وبات على الأزهر الذى جاوز عمره الألف عام أن يُحيى علوم الدين التى تضمن تجريم صيام العقول. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى