بما أننا أمةٌ تستعد لاستقبال شهر رمضان المعظم، ولأننا فى أيامٍ عنوانها السعى لاستنقاذ ما بقى من إنسانيتنا، ولكون هذا المِداد يسرى من وعى يرى الإيمان واحدًا من أعمدة البناء الأصيلة فى الشخصية المصرية، تكون البداية من واقع المُكاشفة سعيًا لتقييم ما عَلِقَ بذواتنا من فنون التخدير فقهًا، وشتى ألوان التبيُّنِ النقلِيّ ثقافةً دينية، وأدوات استثمار الخطاب الدينى تسويقًا مُنْحازًا لِمَنْ مَلَك المنبر الإعلامي، ووصولًا لغاية المرادِ من رب العِبَاد مُجردًا لوجه الله. فى أُمْهات كتب الفقه التراثية الأصيلة، فصلٌ استغرقَ فقهاء عصورٍ كانت فى إبداع خطابٍ يتماشى مع أدوات وتقنيات عصره، ووضع الأئمة الأولون لهذا الفصل عنوانا هو (صيامُ يوم الشك)، وبنقلةٍ عبر الزمن نتحرك إلى المستقبل متجاوزين عصر ما أنتج الأئمة الأربعة وتلاميذهم وصحبهم من فقه، لنصل بعد ما يزيد على عشرة قرونٍ من الزمان حيث تطورت كل تقنيات العصر، ويجلس مسلمُ زماننا على هاتفه المحمول ليسأل محرك البحث (google ( عن صيام يوم الشك، فلا يتوقف دليل جوجل الفقهى عند هذا السؤال بل يعرض البحث عبر عدة عمليات بحث متعلقة أهمها (مسألة صيام يوم الشك, حكم صيام يوم الشك للقضاء, حكم صيام الشك فى القضاء, صيام يوم الشك فى الدورة الشهرية, حكم صيام يوم الشك للحائض, هل صيام يوم الشك واجب)!، والمُفاجأة أنه بِمنتهى الوعى الإلكترونى يحيله إلى عدد نتائج هو (1620000)، نعم هذا هو الرقم كما قرأته أرقامًا تجاوز المليون والنصف المليون نتيجة، وأولى هذه النتائج تحيل الباحث إلى الموقع الموسوعى (ويكيبيديا)، والذى بدوره يمنح المتصفح بحثًا يشمل تسعة فصول هى (تعريف يوم الشك,أدلة النهي, حديث عمار بن ياسر، حكم صوم يوم الشك, الفرق بين يوم الشك ويوم الغيم -يوم الغيم, عدم الرؤية مع الصحو, يوم الشك فى الفقه, عند الحنفية, عند الشافعية, عند المالكية, عند الحنابلة, انظر أيضاً, مراجع)!، وهكذا غدت تقنية العصر, فتح الله عليها, تتيح لكل مسلم حريص على دينه فقه واقع أنتجه عصر يفصله عن عصرنا الحالى ألف عام!. حِينَ أنتج وعى الواقع مساحات الخلاف والاختلاف فى الأطروحات المتعلقة بعلوم الفلك والأجرام السماوية كانت التقنية المًتاحة مُنعدمة الأثر إذا ما قورنت بتقنيات زماننا، وحين تم إنتاج ذاك الزمان كان الغاية من إبداع ما أُنتج هو التيسير على عُمَّار الأرض مهمتهم عبر عبادة واعية منضبطة، أسسوا ليبنى من تلاهم، حتى كان أن اكتشف إمكانية استخدام الدين سلباً عبر تغيير مساراته المؤدية إلى تفعيله، لتحويلها إلى مسارات الإخضاع والإضعاف وحبس العقول والأفكار، فبعدما كان الفقهُ اجتهادًا يُنتجه صاحب عقل مؤمن مبدع ويُسلمه من جيل إلى جيل ليُطَور ويعيد إنتاج خطاب واقعه بمحددات زمانه، غدا الفِقْهُ مقدسًا منقولًا عبر أوعية الحفظ التى ترى المساس بنصوص اجتهاد كان كبيرة، وتحبس دورها فى تحقيق ما اُجْتُهِد فيه لتدلل على كم كانوا أصحاب عقولٍ تسبق زمانها! حين تستفتى جوجل, فتح الله عليه، فى قضية (رؤية هلال رمضان) سيعطيك ما يزيد على ستة ملايين إجابة، وعندما تسأله عن (حكم منع الصلاة فى مكبرات الصوت) سيُحيلك إلى (737000) صفحة للإجابة، وهكذا يُمكنك أن تستفتى الشيخ جوجل فيما شئت ليُحيلك إلى صفحات تنقل اجتهادًا فكريًا عمره يربو عن ألف عام. عفوًا إن هذه الأسطر لا تستهدف أن تنال من مقدس، ولا ترمى فقهاء عصرنا لا سمح الله بخذلانِ عقول هذه الأمة، ولا تستهدف أن تُشَكِكَ فى أبواقٍ إعلامية ترى فى هكذا (فقه) سلعة رائجة فى مواسمها، كما أنها لا تسعى لأن تنتقد منْ كلفوا بالإدارة فى عالمنا الإسلامى فأعملوا نصوصًا موروثة ليضمنوا تشتيت الوعى الشعبى وتجميده، أو حتى ليؤكدوا تمايزهم عن أقرانهم فى مواعيد بدء الصيام أو إعلان العيد. إن هكذا طرحٌ يستهدف الوعى الجمعى على عتبات الشهر الكريم، فحقيقة الاستهداف للبقاء الإنسانى تتجاوز كل تصنيفٍ ديني، وحقيقة التمام الرسالى فى الإسلام عنوانها تمام النعمة استخدامًا وانعكاس ذلك رِضًا نفسيّ يؤهل للتعايش الإنساني، ورمضان بما يحمله من نفحات وسكينة قادر على أن يكون محطة للتأمل فى الواقع لدى الجميع، العامة ليعودوا بإيمان العوام إلى نقاء سريرته بغير ما علاها من خلافات متحفية حسمتها تقنيات العصر، والخاصة من علماء ودعاة وأصحاب أفكار ليعيدوا إنتاج فقه واقعنا بعيدًا عن حبسٍ فرضته تابوهات النقل ويُباركه الشيخ (جوجل)، فالحقيقة المُفجعة أنَ مستهدفى إنسانيتنا إغراقًا فى بحور الفوضى والدم، لن يبلغوا غايتهم إلا إن غُيب وعينا الدينى بالإستغراق فى نقلٍ ما عاد يؤهل لأى انطلاق. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى