إلى ذكرى صديقى المرحوم د. على مبروك، الرائى الذى كان يرى الأعماق: إن مأزقنا لا يكمن فى فتوى تكفير المرتد، أو أخذ الجزية من أهل الكتاب، أو قتال الكفار من غير أهل الكتاب، أو عقيدة الولاء والبراء، وغيرها، كى نبادر للخلاص من ذلك، عبر انتقاء مجموعة آيات كريمة وأحاديث شريفة، تتحدث عن: الرحمة، والعفو، والسلام، ونفى الإكراه فى الدين. لا أريد اختزال المأزق الراهن لمجتمعاتنا فى فقه مذهب أو لاهوت فرقة ومدوناتها العقائدية والفقهية، أو فى آثار جماعة من السلف خاصة، لأن المأزق أعمق، وأبعد مدى من ذلك المأزق يكمن فى البنية التحتية لهذه المقولات العقائدية والأحكام والفتاوى الفقهية، وفى قصور أدوات النظر فى النصوص ومناهج القراءة الموروثة، إنه يتمثل فى الأسس ومناهج التفكير والأدوات المتوارثة المنتجة للتفكير الدينى فى الإسلام، من: المنطق الارسطي، وعلم الكلام، وأصول الفقه، وقواعد الفقه، وعلوم القرآن، وأصول التفسير، وقواعد الحديث وعلم الرجال، وعلوم اللغة، بوصفها المادة الأساس لتشكيل الرؤية للعالم، وبناء الانساق العقائدية، وصياغة منطق التفسير، ورسم خارطة تفكير الفقه، وانتاج مختلف المعارف الدينية، التى يكرر العقل الإسلامى فيها ذاته باستمرار، ولا يستنسخ ما قاله الأوائل من أئمة الفرق والمذاهب، ويستأنف قواعدهم، ويرسخ عباراتهم ومصطلحاتهم وآراءهم كما هي، ولم يخرج من نسخ على منوالهم واقتفى آثارهم عن تلك الأصول والقواعد والمقولات فى الغالب، إلا بحدود بيان القاعدة، وشرح العبارة وشرح شرحها، والحواشى والتعليق عليها، وتوضيح المراد واستخلاص المضمون. ذلك «أن الأول لم يترك للآخر شيئا»، حسب القول الذى سمعناه وقرأناه كثيرا، وأضحى قيدا يقيد تفكيرنا، فلا يسمح لنا أن نفكر كما فكروا، ونتأمل مثلما تأملوا، ونصوغ قواعد بديلة لتفكيرنا الدينى فى سياق عصرنا ورهاناته، وفى ضوء المعارف والعلوم والفنون المستجدة، كما صاغ السلف قواعدهم، التى أمست مناهج مزمنة وجهت نمط فهمهم، وتوجه فهم من جاء بعدهم، وتهيمن على فهمنا اليوم للدين، دون أن نتأمل ونراجع، لندرك أن تلك القواعد انبثقت فى اطار الافق التاريخى لعصرهم، وأنها مشتقة من طبيعة المعارف والعلوم والفنون المتعارفة لديهم، فلم يكن عقل الشافعى خارج عصره، حين قعد أصول الفقه، بعد قرنين من عصر البعثة الشريفة، ثم أضحت أصوله بوصلة حددت وجهة بناء وتطور علم الأصول عند كل المسلمين حتى اليوم. ينبغى ألا نفتقر للحس التاريخى فى دراسة الموروث الديني، ولا نتردد فى اكتشاف مواطن قصوره وثغراته المتنوعة، وعجزه عن الوفاء بمتطلبات روح وقلب وعقل وجسد المسلم اليوم، فضلا عن ضرورة أن نتعرف على آفاق الحاضر، ونستبصر مديات المستقبل، كذلك لابد من الخروج عن المناهج والأسس وأدوات النظر الموروثة للتفكير الديني، بوصفها «أنساقا عميقة» وحدودا نهائية، يعاد انتاج الاسئلة والأجوبة ذاتها من خلالها كل مرة، أنها تعطل العقل، وتسجن عملية التفكير الدينى فى مداراتها المغلقة، ولا تكف عن التكرار والاجترار، تبدأ من حيث تنتهي، وتنتهى من حيث تبدأ، تبدأ من أصول الشافعى ولاهوت الأشعرى وغيره لتنتهى بها، وتنتهى بها لتبدأ منها... وهكذا نظل ندور فى مقترحات وتلفيقات تخفى أكثر مما تعلن، وتدافع أكثر مما تكتشف أو تبتكر حلولا، وتقول كل شيء من دون أن تقول شيئا جديدا. تمنع الأنساق المضمرة والنماذج المعيارية الراسخة المتصلبة فى تراثنا انبثاق اسئلة عميقة، تستأنف النظر فى مسلمات هذا التراث غير المسلمة، وبداهاته التى ليست بديهية، كى تمنح العقل المسلم آفاقا فسيحة للتفكير خارج مداراتها. إن تلك الأنساق والنماذج المعيارية تمارس نوعا من الإكراه، إذ تصر على تكرار الأجوبة ذاتها، حرصا على المطابقة معها، ونبذا لأى شكل من الاختلاف عنها، لذلك تفتش دائما عن الأشباه والنظائر، كى تعيد مماثلتها ومشاكلتها مع كل ما هو جديد. وإن تبدى لنا شىء من الاختلاف، فهو لايعدو أن يكون سوى أسماء جديدة، وكلمات بديلة، للأنساق والنماذج الموروثة ذاتها. وكأن مهمتنا التاريخية، ليست التناغم مع إيقاع التاريخ، والإصغاء لصيرورته، ومواكبة حركته الأبدية، وإنما تتمثل هذه المهمة فى حماية تلك الأنساق. والنماذج المعيارية، وحراستها على الدوام من التصدع والانهيار. نطمح بمرافعة من نوع مغاير لمحاججات المتكلمين القدماء، لا تهدف هذه المرافعة إلى تدوين ميثاق اعتقادى جديد، وإنما تنشد إزاحة أدوات النظر وآليات الفهم الراسخة، التى أمست بداهات، لا يجرؤ أحد على استئناف النظر فيها، ومحاكمة أدائها وقدرتها على الوفاء بوعود الدين اليوم. ونتطلع لخلاصنا من شباك عقل الأسلاف، ومدارات تفكيرهم المحدودة بالفضاء. المعرفى ورؤية العالم لعصرهم. من الضرورى مساءلة المسلمات الموروثة الراسخة، في: علم الكلام القديم، وأصول الفقه، وعلوم القرآن والتفسير، وغيرها، وكل تلك الأسس والمرتكزات الراقدة فى الطبقة التحتية لبنية المعارف الإسلامية، والمولدة للتفكير الدينى فى الإسلام اليوم، عبر اشتغالها على توجيه دلالات النصوص، فى سياق منطقها الذى يفضى إلى معنى محدد، يغدو هو الشريعة وأحكامها، وإن رفضه يعنى رفضا للشريعة الإلهية. وهى لا تنى تكرر هذا المعني، وتعيد صياغته بعبارات متنوعة، لكن المضمون يمكث على الدوام كما هو، مهما تقادم الزمان. يتلون مدلول النص تبعا للون الأوعية التى حل فيها، وكأنها بمثابة قوالب ثابتة يتشكل مدلول النص تبعا لها، فكما يأخذ الماء عادة شكل ولون الوعاء الذى يكون فيه، ولا يختلف لون وشكل الماء عن لون وشكل الإناء، هكذا النصوص توجه دلالاتها على الدوام أدوات ومناهج النظر التى تستنبط منها الأحكام، أى أننا مهما كررنا استعمال تلك القوالب، سننتهى إلى نتائج متفقة مضمونا وكيفا، وإن اختلف فى صياغاتها وتفاصيلها وأسلوب التعبير عنها، والتى تبدو لنا. أحيانا وكأنها مختلفة نوعيا عن النتائج السابقة. وحتى أولئك الذين يشددون على أنهم مجددون، ويتحدثون لنا عن مواقف فقهية أو اعتقادية، لا تكرر الموروث أحيانا، فإنهم حين يغامرون أحيانا بتعطيل تلك القواعد والأسس المتداولة فى الاستنباط، ويتذرعون بما يصطلحون عليه أهدافا ومقاصد ومصالح للشريعة، فإنهم لا يبتكرون آفاقا جديدة للتفكير الديني. إنهم حتى وإن غلبوا تلك المقاصد فى بعض الموارد المحدودة، لكن. بوسعهم التمسك بها كمنهج بديل لأصول الفقه، وقواعد النظر والاستنباط المعروفة مع العلم أن الاجتهاد فى مقاصد الشريعة توقف عند الشاطبى قبل عدة قرون، بل حتى أخيرا، مع محمد الطاهر بن عاشور، لم يبلغ الاجتهاد فى المقاصد مديات تسمح له وللفقهاء المعاصرين. أن يتوكأوا عليها فى الاجتهاد الفقهي، ويستغنوا بها عن أصول الفقه والقواعد الفقهية الموروثة وكل ما يطبع من كتابات فى هذا الموضوع، وما يتحدث عنه البعض، من أن تفعيل المقاصد سيقضى إلى إنتاج فقه مواكب للحياة، انما هو مجرد مزاعم، وشروح ومستخلصات لمقاصد الشاطبى ليس إلا، بلا أن يمارس فقيه إنتاج فقه يستقى من تلك المقاصد خاصة، ويستند اليها. كمؤشرات فى التعاطى مع النصوص. وهنا أود التنبيه إلى أن هناك مبالغة فى التعويل على مقاصد الشاطبي، واعتبار البعض لها خشبة خلاص لمأزق التفكير الديني، من دون وعى أن تلك المقاصد تحكى طبيعة الرؤية للعالم والمعرفة الدينية السائدة فى عصر الشاطبي، كما تشى بأحكامه المسبقة، وأفق انتظاره، وما يترقبه هو. وعصره من الشريعة. ومما لا شك فيه أن أفق انتظاره لا يتسع لأفق انتظارنا، وأحكامه المسبقة لا تتطابق مع أحكامنا المسبقة، ورؤيته للعالم مستوحاة من عصره لا عصرنا، لذلك فإن مقاصده يمكن أن توظف كمؤشرات ومعالم كلية فى بناء رؤى جديدة للتعاطى مع النصوص الدينية، والتعرف علي. مشكلات المسلم المعاصر، وطبيعة ملابسات الواقع هذا اليوم. المؤسف أننا كلما واجهتنا مشكلة عميقة هربنا للماضى نستفتيه فى حلولها. لا جدوى من إحياء الأموات ليحكموا الأحياء. لم يعد احياء التراث خلاصا، حتى من يراهنون على أحياء عقلانية المعتزلة اللاهوتية، وعقلانية ابن رشد الفلسفية، وروحانية ابن عربي، وغيرها، لا ينظرون للأعماق، ولم يتنبهوا إلى أن تلك العقلانية والروحانية تنتمى للأفق التاريخى لعصرها. الخلاص فى عقلانية اكتشفها يواصل اكتشافها العقل عبر تفكيره العميق، وتراكم خبراته فى الخطأ والصواب، وفى روحانية مستلهمة من القرآن الكريم تنتمى للأفق التاريخى لعصرنا أين الرائى المولع برؤية الأعماق؟ لمزيد من مقالات د. عبد الجبار الرفاعى