عندما نتحدث عن الثقافتين فى بلاد الغرب، فإننا نعنى بذلك شيئا محددا, وعندما نتحدث عنهما فى بلادنا فإننا نعنى شيئا آخر. فى عام 1959 ألقى تشارلز بيرسى سنو فى جامعة كمبردج محاضرة بعنوان «الثقافتان». أثارت المحاضرة الكثير من الجدل، وقام صاحبها بتطويرها ونشرها فى كتاب، قام المركز القومى للترجمة بنقله للعربية. انتقد المؤلف فى هذا الكتاب الانقسام فى ثقافة الإنجليز بين أصحاب الثقافة العلمية من دارسى الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة، وأصحاب الثقافة الأدبية من دارسى العلوم الإنسانية والاجتماعية. أظهر المؤلف الطريقة التى يعوق بها هذا الانقسام تقدم الأمة الإنجليزية علميا وثقافيا، وطالب بتطوير نظام التعليم بما يسمح بردم الفجوة بين الفريقين. ماذا نقول لو حاولنا تطبيق أفكار تشارلز بيرسى سنو على الواقع المصري؟ هل لدينا شرخ وانقسام ثقافى فى مجتمعنا؟ هل الانقسام الثقافى عندنا بين أصحاب العلوم الطبيعية وأصحاب الإنسانيات، أم أن الانقسام بين الثقافتين عندنا له شكل آخر؟ نظامنا التعليمي، المأخوذ فى جانب كبير منه عن النظام الانجليزي، يؤدى إلى انقسام عميق بين العلوم والآداب، وما بدعة التشعيب إلى رياضيات وعلوم وآداب فى المرحلة الثانوية سوى سبب ومظهر يدل على هذا الانقسام. مع هذا فإن الانقسام بين أصحاب العلوم وأصحاب الآداب ليس هو الأكثر جدية وخطورة فى ثقافتنا, فالانقسام الأكثر خطورة عندنا هو ذلك الحادث بين أصحاب الثقافتين الدينية والمدنية, وهو نفسه الانقسام بين الثقافتين القديمة والعصرية، الشرقية والغربية، الموروثة والوافدة. حدث هذا الانقسام عندما ظهر لدينا نظامان للتعليم يدفع كل منهما الأمة وثقافتها فى اتجاه مخالف للآخر، أحدهما دينى والآخر مدني. غير أن الأمر لم يكن بهذه الحدة منذ البداية، على العكس، فقد كانت هناك مرحلة بدت فيها ثقافتنا مرشحة للتطور بشكل يوازن ويجمع بين القديم والجديد. فطوال المائة عام الأولى من النهضة الوطنية الحديثة، والتى بدأت بشروع محمد على باشا فى تحديث التعليم المصري، كان خريجو معاهد التعليم الدينى هم الخزان البشرى الذى أتى منه التلاميذ المصريون فى مدارس النظام الجديد. ويقدم الدور الذى لعبه الأزهرى رفاعة الطهطاوى فى تجديد الثقافة المصرية والعربية نموذجا للأثر الرائع الذى يمكن أن ينتج عن تجسير الفجوة بين الثقافتين. ذهب رفاعة الطهطاوى إلى باريس، وهناك اطلع على النموذج الغربى فى المجتمع والثقافة، فكتب لنا «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز». بعد سنوات ألف الطهطاوى كتابا عن سيرة الرسول الكريم سماه «نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز»، وهو الكتاب الذى قدم فيه أول معالجة حديثة لسيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. بين هذين العملين ترجم الطهطاوى وألف العشرات من الكتب والمقالات التى قدمت القديم والجديد، الموروث والوافد، فى وحدة متكاملة، ليس فيها انشقاق أو انقسام. فى مرحلة تالية تم إنشاء الجامعة التى بدأت أهلية عام 1908، وفى الخامس من مايو عام 1914 حصل طه حسين على درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية. كانت هذه هى أول درجة دكتوراه تمنحها الجامعة، فاكتملت بهذا دورة النهضة العلمية والتعليمية التى بدأت مائة عام قبل هذا التاريخ، عندما فتح محمد على عام 1816 مدرسة الهندسة فى القلعة، وما تلى ذلك من افتتاح المدارس التجهيزية والعليا المتخصصة، وإرسال البعثات العلمية لبلاد أوروبا. ركز محمد على جهوده فى تخريج الضباط والتكنوقراط المهندسين والأطباء وأمثالهم، غير أن طه حسين حصل على الدكتوراه برسالة كتبها عن أبى العلاء، بما يدل على أن النخبة من أهل البلاد قد شبت عن الطوق، وطورت فهمها للنهضة ومستلزماتها، وأدركت أهمية التركيز على النهضة الفكرية والثقافية، لتضاف للتركيز على امتلاك عناصر القوة المادية. بإنشاء الجامعة دخلت الثقافة المصرية والعربية فى مرحلة ازدهار جديد، وظهر جيل الآباء المؤسسين للفكر العربى الحديث، وهو الجيل الذى أسس تقاليد جديدة جمعت بين الثقافتين الإسلامية الموروثة والغربية الوافدة، فقام بمعالجة الموروث الثقافى باستخدام أدوات التحليل التى طورها الغرب. هذا هو الإسهام الأكبر الذى قدمه طه حسين وأحمد أمين للثقافة العربية الحديثة. كتب طه حسين عن أبى العلاء وابن خلدون والشعر الجاهلى وسيرة النبى والشيخين أبوبكر وعمر والفتنة الكبرى, وأنتج أحمد أمين أول موسوعة شاملة عن الحياة العقلية فى الحضارة الإسلامية، فتكون لدينا لأول مرة مكتبة عربية عصرية تتناول موروثنا العربى الإسلامي. اصطنع الآباء المؤسسون طريقة جديدة فى النظر والكتابة، فجاءت طريقتهم مختلفة عن القداسة والتبجيل التى اعتاد الأزهريون إضفاءها على الثقافة الموروثة، ومختلفة أيضا عن الكتابات التى ألفها البحاثة الغربيون من خارج الثقافة العربية الإسلامية. المؤكد أنه لم يكن بإمكان الآباء المؤسسين القيام بهذا الدور دون التمكن من مصادر الثقافة العربية، فقد درس طه حسين وأحمد أمين فى الأزهر قبل تعرفهما على أساليب التفكير الغربى الحديثة فى الجامعة المصرية وفى أوروبا. فى الأزهر تمكن الطهطاوى وطه حسين وأحمد أمين من مصادر التاريخ والفكر الإسلامي، وتآلفوا مع المصطلح والطرائق الخاصة بالكتابة والتعبير فى المصادر الإسلامية، وبينما لديهم الشعور بامتلاك الثقافة العربية الإسلامية، فقد درسوها بعمق بعد أن تربوا عليها. لقد تصرف الرجال الثلاثة بما يجدر بالملاك أن يتصرفوا به فى أملاكهم، فحافظوا عليها وأصلحوها، وجاء نتاج عملهم خاليا من الانقسام والتشققات. المشكلة بدأت بعد ذلك، عندما اتسعت الهوة بين نظامى التعليم الدينى والمدني, وتوقفت حركة الذهاب والإياب بين النظامين؛ وتم تسييس العلاقة بينهما، وتجميدها فى صراع الأيديولوجيات السياسية, فتكونت لدينا أجيال من خريجى التعليم الحديث ليس لديهم سوى إلمام ضعيف بمصادر الثقافة العربية الإسلامية؛ فيما واصل الأزهر إنتاج خريجين لا يملكون من المعرفة الحديثة سوى قشور, فظهرت الثقافتان، وتعمقت الهوة بينهما، وأصبحنا كما لو كنا نركب حصانين يسيران فى اتجاهين متعارضين فى الوقت نفسه. لمزيد من مقالات د. جمال عبد الجواد