يعرف المتطامنون أن علم الإنسان عمومًا محدود، ويعرفون أن كل من آمن بدين، ليس بالضرورة على علم كامل بمبادئ وقيم وأحكام دينه، وهذا لا يعيبه مادام يحتفظ بالرغبة فى المعرفة والحرص عليها، بالقراءة أو بالسؤال والاستفسار للإطلال على ما لا يعرف، ومعرفة أسراره وحكمه . إلاَّ أن الناس ليسوا جميعًا على شاكلة واحدة فى النظر والسلوك، فمنهم من يعتقدون أو يظنون أنهم على علمٍ بكل شيء، وقد يغالى المغالون بالاعتقاد بأنهم يحتكرون العلم والصواب، وأن رؤيتهم هى بالحتم والضرورة ما قرره الله عز وجل، ومن الناس من يعز عليه أو يتحرج من الإقرار بنقص علمه ومعلوماته، ويعز عليه من ثم ويتحرج من سؤال أهل العلم، أو الرجوع إليهم فيما يستغلق عليه من قراءاته، فينصرفون عارفين أو غير عارفين عن لب الإسلام وجوهره، ويضل السعى ببعضهم فيرتكبون شططًا ويغرقون فى البعد به عن الدين، وربما حسبوا أنهم إنما يحسنون صنعًا، ويعرفون ما لم يأت به الأوائل والأواخر ! والذين يتصلبون ويتطرفون من المسلمين، يبتعدون دون وعى أو إدراك عن الإسلام ولبه وجوهره . الإسلام أبعد ما يكون عن الجمود والتصلب والتعصب والتطرف، ومنظومته الفكرية والأخلاقية والسلوكية كدين للعالمين، قد عبرت عن الاتساع الكونى لرسالة الإسلام فى المكان وفى الزمان .. فرسوله إنما بعث للناس كافة، يحمل رسالة للعالمين، لا هى مقصورة على قوم أو جنس، ولا هى محدودة بحدود المكان، ولا بحدود الزمان .. سبيله إلى الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالإكراه أو الإجبار أو القسر أو الإرغام . لا يسعى الإسلام ولا يقبل أن يفرض نفسه كرهًا على الناس، فلا خير فى المكره ولا رجاء فيه. دستوره مع الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة، الرفق والمحبة والإسماح .. يقول تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام، «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ » (النحل 125) . رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام مأمور بذلك كله من ربه عز وجل فى قرآنه المبين .. ما عليه إلاَّ البلاغ : «إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ» (الشورى 48) . «إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ*إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا» (فاطر 23، 24) . «لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء» (البقرة 272) . «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » (البقرة 256). «أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ »(يونس 99). «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ»(يونس 108) . «قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» (الأنعام 91). لا أحد يملك ما لم يملكه رسول الإسلام. والمسلم غنيٌّ بهدايته، موكول بنفسه، لا يفقره ولا يضره ضلال غيره .. «عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» (المائدة 105). والإسلام لا يعادى الديانات والرسالات التى نزلت قبل الإسلام .. ففى القرآن المجيد: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ» (البقرة 285) .. وفى خطاب آمر إلى المسلمين، يقول القرآن الكريم فيما أمر به رسوله عليه السلام: «قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (البقرة 136)، ويمثل ذلك الآية الرابعة والثمانون من سورة آل عمران . والذين يفهمون الإسلام حق فهمه، ويقرأون القرآن بوعي، يعرفون أن هذه التسمية ليست خاصة فقط بالدين الذى نزل به «محمد» عليه الصلاة والسلام، وإنما هى عنوان لجميع الرسالات والنبوات . يقول عزل وجل: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ» (المائدة 44). ولم تكن دعوة يعقوب عليه السلام إلاَّ إلى الإسلام، تشبث بها ومات عليها وأوصى أولاده بها: «أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (البقرة 133). وكان المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، يعلم أتباعه التسليم والانقياد لله، وصدق العبودية له، وبذلك أوحى الله تبارك وتعالى إلى الحواريين، فقال سبحانه فيما يرويه القرآن المجيد : «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ» (المائدة 111). ويفوت المتطرفون المغالون، أن المسلم آلف ومألوف، وفى الحديث الشريف : «المسلم آلف ومألوف، ولا خير فيما لا يألف ولا يؤلف». هؤلاء الذين وصفهم رسول القرآن عليه الصلاة والسلام بأنهم الأحاسن أخلاقًا الموطئون أكنافًا . ويرشد القرآن المجيد، إلى أن اختلاف الناس سنة كونية ليست محلاًّ لعداوة أو خصام أو عراك . أراد الله تعالى هذا الاختلاف، وقال فى قرآنه المجيد: «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» (هود 118) . لذلك فالمسلم مأمور بالتعاون على البر والخير والتقوى والمعروف، لا على الاثم والعدوان . «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» (المائدة 2)، وأرشد عز وجل إلى وحدة الأسرة الإنسانية، وحسن التعايش مع أهل الكتاب، فقال جل شأنه : «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ »(المائدة 5) . لمزيد من مقالات رجائى عطية