( 3 ) حفظ الدين الدين حاجة فطرية للإنسان، ففيه من روح الله كما أخبرنا سبحانه وتعالي في القرآن الكريم : » فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ » (الحجر 29) وقد حمل الإنسان منذ دب علي الأرض سؤاله الخالد الأبدي، بميله الفطري، وظل يتدرج في فهمه واستيعابه حتي اهتدي في نهاية رحلته إلي التوحيد . بهذه الروح الربانية حمل الإنسان إلي أصله ومصدره الإلهي، وقد نبه القرآن المجيد بنبوة آدم عليه السلام، فقال : » إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ » (آل عمران 33) . وقد تمثلت هذه النزعة أوالغريزة الدينية كل الأجناس البشرية، ومع حاجة الإنسان إلي الدين ترقي في مدارجه إلي أن عرف الله الواحد الأحد، واهتدي إلي نزاهة التوحيد، فكانت هذه الهداية ختام رحلة طويلة للإنسان تتابع عليه فيها الأنبياء والرسل، واختتمت بالإسلام، الذي حمله إلي الناس كافة محمدٌ عليه الصلاة والسلام، وصارت شريعته هي الهادية الحاكمة المنظمة لحركة الأحياء في حياتهم الدنيا . يقول تعالي : » تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ » (الملك 1، 2) وهذه الحياة الدنيا هي معقد رجاء الآدمي في آخرته، والاختبار الأساسي لمدي إدراكه لنعمة الحياة التي أنعم بها عليه الخالق البارئ عز وجل، فهذه الحياة الدنيا هي الفرصة الوحيدة للآدمي لكتابة مصيره في آخرته، يحدوه الدين ويهديه ويرشده للاختيار بين الخير والشر، للسير علي الصراط المستقيم . الدين منهج حياة، ومنارة للهداية، ومرشد للسلوك، ومؤدب مهذب للنفوس، ليكتب الإنسان في الحياة للانتظام سيره فيها، وأملاً في حسن المثوبة والمآب في الآخرة . وعلي ذلك فإن » حفظ الدين » حفظ للإنسان ذاته، وحفظ لدستور تعامله مع الحياة وفقًا لمشيئة ربه وأوامره ونواهيه، واستقامة سلوكه مع غاياته المستمدة من أحكام الدين. يبقي الإنسان متصالحًا مع نفسه، ومع الآخرين، ومع الحياة، ما بقي علي محجة هذا الدين، متخذًَا منه منهاجًا ودستورًا وهاديًا ومرشدًا ومنارًا . ولا يتعرض الإنسان للتمزق والتشتت، والحيرة والضياع، إلاَّ إذا تاهت منه البوصلة أوتاه عنها، هذه البوصلة تتمثل في الدين، ومن أجل ذلك كان » حفظ الدين » مقصدًا أساسيًا من مقاصد الإسلام وشريعته، يؤدي التفريط فيه إلي الفراغ الروحي الذي يؤدي إلي كل المهاوي والتمزقات . وحين نفهم هذا المقصد في حفظ الدين، نفهم معه مكانة الدين، وأثره، نفهم أن مقتضي هذا المقصد حماية الدين من كل صور وأشكال وأساليب التعدي عليه، بالتخريب أوالتهوين أوالازدراء . وهذه الحماية الواجبة لمقصد أساسي من مقاصد الشريعة، ليست مصادرةً علي حق الغير في اختيار دينه، وحقه فيما يعتقده ويؤمن به، وحقه في أن يؤدي مناسكه في إطار النظام العام الذي يشكل الدين نفسه مقومًا أساسيًّا من مقوماته، فليس في الإسلام إجبار أوقسر أوإرغام، فالقوانين قد تفرض بالقسر والإرغام ولكن الإيمان لا يستقيم إلاَّ بالهداية والاقتناع، وأكد القرآن الكريم ذلك، فقال عز وجل : » لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ » (البقرة 256). ويوصي سبحانه وتعالي نبيه المصطفي فيقول : » وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ » (الأنبياء 107) . » وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ » (النحل 44) » يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَي اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا » (الأحزاب 45، 46) . » وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ » (الكهف 19) » ادْعُ إِلِي سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (النحل 125) » قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً » (الإسراء 93) » فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ » (الغاشية 21، 22) » أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّي يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ » (يونس 99) ويقول الحكيم اللطيف الخبير للمؤمنين : » لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » (المائدة 105) ومن حفظ الدين، التزام صراطه، والتزام ما ألزم به الله تعالي نبيه المصطفي عليه الصلاة والسلام، فليس من الدين، ولا هومن حفظ الدين، تجاوز ما أمر به الله وأوجبه علي رسوله، فإيجابه علي متبعيه أولي وألزم . ومن حفظ الدين، أحد المقاصد الأساسية للشريعة، الامتناع عن اتخاذه وسيلةً للعدوان علي الغير بدعوي إعلاء كلمة الدين، فإعلاء الدين يكون بالتزام المؤمن بأوامره ونواهيه، ومراعاة مقاصده، ومن مقاصده ألا يُحمل الناس علي الدين كرهًا كما حدثنا القرآن الكريم، وألا يجادل أحد إلاَّ بالحكمة والموعظة الحسنة . التفطن إلي مقاصد الشريعة من حفظ الدين، يعطي لهذا الحفظ معاني تتسع لكل كليات ومبادئ وأحكام وروح الدين، وهي معاني عنيت عناية بالغة بالأغيار، يلاحظها القارئ للدين قراءة جيدة، فمن مقاصد الإسلام رعاية الغير، ويتجلي ذلك في منظومة أخلاقه وشمائله وسجاياه، فالصدق والأمانة والوفاء والحكم، والشهادة بالحق، والعدل في السلوك وفي الحكم، والوفاء بالكيل والميزان، وبالوعد والعهد والعقد، والعفو والصفح، والتواضع والإحسان، كلها وغيرها فضائل تصب فيما يجب أن يُبْذل من رعاية وعناية بالأغيار والآخرين . لا يفهم الدين فهمه الحق، من لا يلم بمقاصده، فهذه المقاصد هي المنار الهادي لأحكامه وروحه، وهي العاصم للدين من أن يُلوي علي غير مقاصده وعلي غير ما أراد الله تعالي من هداية وصلاح، للحياة وللأحياء .